قوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) تقدّم الكلام على نظيرتها ، وهي (ما نَنْسَخْ)(١) ، فكلّ ما قيل ثمّ يقال هنا. قال أبو البقاء : «ونزيد هنا وجها آخر : وهو أن يكون «من خير» في محلّ نصب نعتا لمصدر محذوف ، تقديره : وما تفعلوا فعلا كائنا من خير».
و «يعلمه» جزم على جواب الشرط ، ولا بدّ من مجاز في الكلام : فإمّا أن يكون عبّر بالعلم عن المجازاة على فعل الخير ، كأنه قيل : يجازكم ، وإمّا أن تقدّر المجازاة بعد العلم أي : فيثيبه عليه.
وفي قوله : (وَما تَفْعَلُوا) التفات ؛ إذ هو خروج من غيبة في قوله : (فَمَنْ فَرَضَ). وحمل على معنى «من» إذ جمع الضمير ولم يفرده.
وقد خبط بعض المعربين فقال : «من خير» متعلق بتفعلوا ، وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف ، تقدره : «وما تفعلوه فعلا من خير» والهاء في «يعلمه» تعود إلى «خير». وهذا غلط فاحش ؛ لأنه من حيث علّقه بالفعل قبله كيف يجعله نعت مصدر محذوف؟ ولأن جعله الهاء تعود إلى «خير» يلزم منه خلوّ جملة الجواب من ضمير يعود على اسم الشرط ، وذلك لا يجوز ، أمّا لو كانت أداة الشرط حرفا فلا يشترط فيه ذلك فالصواب ما تقدّم. وإنما ذكرت لك هذا لئلا تراه فتتوهّم صحّته. والهاء عائدة على «ما» التي هي اسم الشرط. وألف «الزاد» منقلبة عن واو لقولهم : تزوّد.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)(١٩٨)
قوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا) : «أن» في محلّ نصب عند سيبويه والفراء ، وجرّ عند شيخيهما والأخفش ؛ لأنّها على إضمار حرف الجرّ ، أي : في أن ، وهذا الجارّ متعلّق : إمّا بجناح لما فيه من معنى الفعل وهو الميل والإثم ، وما كان في معناهما ، وإمّا بمحذوف ، لأنه صفة ل «جناح» ، فيكون مرفوع المحلّ أي : جناح كائن في كذا. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه متعلق ب «ليس» ، واستضعفه ، ولا ينبغي ذلك ، بل يحكم بتخطئته البتة.
قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) يجوز أن يتعلّق بتبتغوا ، وأن يكون صفة ل «فضلا» ، فيكون منصوب المحل ، متعلقا بمحذوف. و «من» في الوجهين لابتداء الغاية ، لكن في الوجه الثاني تحتاج إلى حذف مضاف أي : فضلا كائنا من فضول ربكم.
قوله : (فَإِذا أَفَضْتُمْ) العامل فيها جوابها وهو «فاذكروا» قال أبو البقاء : «ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها فيما قبلها لأنه شرط».
وقد منع الشيخ (٢) من ذلك بما معناه أنّ مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر ؛ لأنّ ذلك عرفات وهذا المشعر الحرام ، وإذا اختلف المكان لزم منه اختلاف الزمان ضرورة ، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا عند إنشاء الإفاضة.
__________________
(١) سورة البقرة ، آية (١٠٦).
(٢) البحر المحيط (٢ / ٩٧).