«ولا جدال» ، فأبو عمرو لم يجعل النفيين الأوّلين نهيا ، بل تركهما على النفي الحقيقي ؛ فمن ثمّ كان في قوله هذا نظر ؛ فإنّ جملة النفي بلا التبرئة قد يراد بها النهي أيضا ، وقيل ذلك في قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ)(١). والذي يظهر في الجواب عن ذلك ما نقله أبو عبد الله (٢) الفاسي عن بعضهم فقال : «وقيل : الحجّة لمن رفعهما أنّ النفي فيهما ليس بعامّ ، إذ قد يقع الرفث والفسوق في الحج من بعض الناس بخلاف نفي الجدال في أمر الحج فإنه عامّ ...» وهذا يتمشّى على عرف النحويين فإنهم يقولون : لا العاملة عمل «ليس» لنفي الوحدة ، والعاملة عمل «إنّ» لنفي الجنس ، قالوا : ولذلك يقال : لا رجل فيها بل رجلان أو رجال أو رجال إذا رفعت ، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها. وتوسّط بعضهم فقال : التي للتبرئة نصّ في العموم ، وتلك ليست نصّا ، والظاهر أنّ النكرة في سياق النفي مطلقا للعموم.
وقد تقدّم معنى الرّفث والفسق. وقرأ عبد الله «الرّفوث» وهو مصدر بمعنى الرّفث.
وقوله : (فَلا رَفَثَ) وما في حيّزه في محلّ جزم إن كانت «من» شرطية ، ورفع إن كانت موصولة ، وعلى كلا التقديرين فلا بدّ من رابط يرجع إلى «من» ؛ لأنها إن كانت شرطية فقد تقدّم أنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كانت موصولة فهي مبتدأ والجملة خبرها ولا رابط في اللفظ ، فلا بدّ من تقديره وفيه احتمالان :
أحدهما : أن تقدّره بعد «جدال» تقديره : ولا جدال منه ويكون «منه» صفة ل «جدال» ، فيتعلّق بمحذوف ، فيصير نظير قولهم : «السّمن منوان بدرهم» تقديره : منوان منه.
والثاني : أن يقدّر بعد الحج» تقديره : ولا جدال في الحجّ منه ، أو : له. ويكون هذا الجارّ في محلّ نصب على الحال من «الحج». وللكوفيين في هذا تأويل آخر وهو أنّ الألف واللام نابت مناب الضمير ، والأصل : في حجّه ، كقوله : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) ثم قال : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)(٣) أي : مأواه.
وكرّر الحجّ وضعا للظاهر موضع المضمر تفخيما كقوله :
٨٨٩ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء |
|
............... (٤) |
وكأنّ نظم الكلام يقتضي : «فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث فيه» ، وحسّن ذلك في الآية الفصل بخلاف البيت.
والجدال مصدر «جادل». والجدال : أشدّ الخصام مشتقّ من الجدالة ، وهي الأرض ؛ كأنّ كلّ واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة ، قال الشاعر :
٨٩٠ ـ قد أركب الآلة بعد الآله |
|
وأترك العاجز بالجداله (٥) |
ومنه : «الأجدل» الصقر ، لشدّته. والجدل فتل الحبل ، ومنه : زمام مجدول أي محكم الفتل.
__________________
(١) سورة البقرة ، آية (٢).
(٢) محمد بن أحمد أبو عبد الله الفاسي المتوفى سنة ٦١٤ ه غاية النهاية (٢ / ٦٨).
(٣) سورة النازعات ، آية (٤٠).
(٤) تقدم.
(٥) البيت للعجاج انظر ملحق ديوانه (٢ / ٣١٥) ، اللسان «أول».