قوله : (مِنْ حَيْثُ) متعلق بما قبله ، وقد تصرف في «حيث» بجرّها بمن كما جرّت بالباء وفي ، وبإضافة «لدى» إليها. و «أخرجوكم» في محلّ جرّ بإضافتها إليه. ولم يذكر «للفتنة» ولا «للقتل» ـ وهما مصدران ـ فاعلا ولا مفعولا ، إذ المراد إذا وجد هذان ، من أيّ شخص كان بأي شخص كان ، وقد تقدّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر.
قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ) قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة : «ولا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم ، فإن قاتلوكم» بالألف من القتال ، وقرأها حمزة والكسائي من غير ألف من القتل. فأما قراءة الجمهور فهي واضحة لأنها نهي عن مقدّمات القتل ، فدلالتها على النهي عن القتل بطريق الأولى. وأمّا قراءة الأخوين ففيها تأويلان ، أحدهما : أن يكون المجاز في الفعل ، أي : ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قتلكم. ومنه قتل (مَعَهُ رِبِّيُّونَ)(١) ثم قال : (فَما وَهَنُوا) أي ما وهن من بقي منهم ، وقال الشاعر :
٨٧٣ ـ فإن تقتلونا نقتّلكم |
|
وإن تفصدوا الدّمّ نفصد (٢) |
أي : فإن تقتلوا بعضنا. وأجمعوا على «فاقتلوهم» أنّه من القتل ، وفيه بشارة بأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم متمكّنون منهم بحيث إنكم أمرتم بقتلهم لا بقتالهم لنصرتكم عليهم وخذلانهم ، وهي تؤيّد قراءة الأخوين ، ويؤيّد قراءة الجمهور : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).
و «عند» منصوب بالفعل قبله. و «حتى» متعلقة به أيضا غاية له بمعنى «إلى» ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» كما تقرّر. والضمير في «فيه» يعود على «عند» ، إذ ضمير الظرف لا يتعدّى إليه الفعل إلا ب «في» ، لأنّ الضمير يردّ الأشياء إلى أصولها ، وأصل الظرف على إضمار «في» اللهم إلا أن يتوسّع في الظرف فيتعدّى الفعل إلى ضميره من غير «في» ، لا يقال : «الظرف ليس حكمه حكم ظاهره ، ألا ترى أنّ ضميره يجرّ بفي وإن كان ظاهره لا يجوز ذلك فيه. ولا بدّ من حذف في قوله : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) أي : فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه ، فحذف لدلالة السياق عليه.
قوله : (كَذلِكَ جَزاءُ) فيه وجهان ، أحدهما : أنّ الكاف في محلّ رفع بالابتداء ، و «جزاء الكافرين» خبره ، أي : مثل ذلك الجزاء جزاؤهم ، وهذا عند من يرى أن الكاف اسم مطلقا ، وهو مذهب الأخفش. والثاني : أن يكون «كذلك» خبرا مقدما ، و «جزاء» مبتدأ مؤخرا ، والمعنى : جزاء الكافرين مثل ذلك الجزاء وهو القتل. و «جزاء» مصدر مضاف لمفعوله أي : جزاء الله الكافرين. وأجاز أبو البقاء أن يكون «الكافرين» مرفوع المحلّ على أن المصدر مقدر من فعل مبنيّ للمفعول ، تقديره : كذلك يجزى الكافرون ، وقد تقدّم لنا في ذلك خلاف.
ومتعلق الانتهاء محذوف ؛ أي : عن القتال. وانتهى «افتعل» من النهي ، وأصل انتهوا : انتهيوا ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت. التقى ساكنان فحذفت الياء لالتقاء الساكنين ، أو تقول : تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الألف وبقيت الفتحة تدلّ عليها.
قوله تعالى : (حَتَّى لا تَكُونَ) : يجوز في «حتى» أن تكون بمعنى كي ، وهو الظاهر ، وأن تكون بمعنى
__________________
(١) سورة آل عمران ، آية (١٤٦).
(٢) البيت من شواهد البحر (٢ / ٦٧).