قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا) كقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا)(١) وقد تقدّم ؛ إلا أنّه لم يختلف هنا في رفع «البر» ، لأنّ زيادة الباء في الثاني عيّنت كونه خبرا ، وقد تقدّم لنا أنها قد تزاد في الاسم ولا حاجة إلى إعادة ما تقدّم.
وقرأ أبو عمرو وحفص وورش «البيوت» و «بيوت» بضمّ الباء وهو الأصل ، وقرأ الباقون بالكسر لأجل الياء ، وكذلك في تصغيره ، ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم لأنّ الضمة في الياء ، والياء بمنزلة كسرتين فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرة ، قاله أبو البقاء.
و (مِنْ) في قوله : (مِنْ ظُهُورِها) و (مِنْ أَبْوابِها) متعلقة بالإتيان ومعناها ابتداء الغاية. والضمير في «ظهورها» و «أبوابها» للبيوت ، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة لأنه يجوز فيه ذلك.
قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) كقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ)(٢) سواء بسواء. ولمّا تقدّم جملتان خبريتان ، وهما : «وليس البرّ» «ولكن البرّ من اتقى» عطف عليهما جملتان أمريتان ، الأولى للأولى ، والثانية للثانية ، وهما : «وأتوا البيوت» «واتّقوا الله». وفي التصريح بالمفعول في قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) دلالة على أنه محذوف من اتقى ، أي : اتقى الله.
(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٩٤)
قوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ) : متعلّق بقاتلوا ، على أحد معنيين : إمّا أن تقدّر مضافا ، أي في نصرة سبيل الله ، والمراد بالسبيل : دين الله ، لأنّ السبيل في الأصل الطريق ، فتجوّز به عن الدين ، لمّا كان طريقا إلى الله ، وإمّا أن تضمّن «قاتلوا» معنى بالغوا في القتال في نصرة دين الله. والذين يقاتلونكم «مفعول» قاتلوا.
قوله تعالى : (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) : «حيث» منصوب بقوله : «اقتلوهم» ، و «ثقفتموهم» في محلّ خفض بالظرف ، وثقفتموهم أي : ظفرتم بهم ، ومنه : «رجل ثقيف» : أي سريع الأخذ لأقرانه ، قال :
٨٧١ ـ فإمّا تثقفوني فاقتلوني |
|
فمن أثقف فليس إلى خلود (٣) |
وثقف الشيء ثقافة إذا حذفه ، ومنه الثقافة بالسيف ، وثقفت الشيء قوّمته ومنه الرماح المثقّفة ، قال الشاعر :
٨٧٢ ـ ذكرتك والخطيّ يخطر بيننا |
|
وقد نهلت منّا المثقّفة السّمر (٤) |
__________________
(١) سورة البقرة ، آية (١٧٧).
(٢) سورة البقرة ، آية (١٧٧).
(٣) البيت من شواهد الكشاف (١ / ٢٣٦).
(٤) البيت لأبي عطاء السندي انظر الحماسة (١ / ٦٦) ، المغني (٢ / ٤٢٦) ، شرح المفصل لابن يعيش (٢ / ٦٧) ، البحر (١ / ٥٩).