قال الشيخ (١) : «وأمّا إعراب الأخفش وتجويز الزمخشري ذلك هنا فتلك مسألة : «لا تأكل السمك وتشرب اللبن». قال النحويون : إذا نصب كان الكلام نهيا عن الجمع بينهما. وهذا المعنى لا يصحّ في الآية لوجهين :
أحدهما : أنّ النهي عن الجمع لا يستلزم النهي عن كلّ واحد منهما على انفراده ، والنهي عن كلّ واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما ؛ لأن الجمع بينهما حصول كلّ واحد منهما ، وكلّ واحد منهما منهيّ عنه ضرورة ، ألا ترى أنّ أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرّمات.
والثاني ـ وهو أقوى ـ : أنّ قوله «لتأكلوا» علّة لما قبلها ، فلو كان النهي عن الجمع لم تصحّ العلة له ، لأنه مركب من شيئين لا تصحّ العلة أن تترتّب على وجودهما ، بل إنما تترتّب على وجود أحدهما ، وهو الإدلاء بالأموال إلى الحكام».
و «بها» متعلّق ب «تدلوا» ، وفي الباء قولان :
أحدهما : أنها للتعدية ، أي لترسلوا بها إلى الحكام.
والثاني : أنّها للسبب بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال إمّا لعدم بيّنة عليها ، أو بكونها أمانة كمال الأيتام. والضمير في «بها» الظاهر أنه للأموال وقيل : إنه لشهادة الزّور لدلالة السياق عليها ، وليس بشيء.
و (مِنْ أَمْوالِ) في محلّ نصب صفة ل «فريقا» ، أي : فريقا كائنا من أموال الناس.
قوله : (بِالْإِثْمِ) تحتمل هذه الباء أن تكون للسبب فتتعلّق بقوله : «لتأكلوا» وأن تكون للمصاحبة ، فتكون حالا من الفاعل في «لتأكلوا» ، وتتعلّق بمحذوف أي : لتأكلوا ملتبسين بالإثم. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «لتأكلوا» ، وذلك على رأي من يجيز تعدّد الحال ، وأمّا من لا يجيز ذلك فيجعل «بالإثم» غير حال.
قوله تعالى : (عَنِ الْأَهِلَّةِ) : متعلّق بالسؤال قبله ، يقال : «سأل به وعنه» بمعنى. والضمير في «يسألونك» ضمير جماعة ، وفي القصة أن السائل اثنان ، فيحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : أنّ ذلك لكون الاثنين جمعا.
والثاني : من نسبة الشيء إلى جمع وإن لم يصدر إلّا من واحد منهم أو اثنين ، وهو كثير في كلامهم.
والجمهور على إظهار نون «عن» قبل لازم «الأهلّة» وورش على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وقرئ شاذا : «علّ هلّة» وتوجيهها أنه نقل حركة همزة «أهلة» إلى لام التّعريف ، وأدغم نون «عن» في لام التعريف لسقوط همزة الوصل في الدّرج ، وفي ذلك اعتداد بحركة الهمزة المنقولة وهي لغة من يقول : «لحمر» من غير همزة وصل.
وإنما جمع الهلال وإن كان مفردا اعتبارا باختلاف أزمانه ، قالوا من حيث كونه هلالا في شهر غير كونه هلالا في
__________________
(١) انظر البحر المحيط (٢ / ٥٦).