أحدهما : أنه متعلّق بالإتمام فهو غاية له.
والثاني : أنه في محلّ نصب على الحال من الصيام ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا إلى الليل ، و «إلى» إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها لم يدخل فيه ، والآية من هذا القبيل.
(وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) جملة حالية من فاعل «تباشروهنّ» ، والمعنى : لا تباشروهنّ وقد نويتم الاعتكاف في المسجد ، وليس المراد النهي عن مباشرتهنّ في المسجد بقيد الاعتكاف ، لأنّ ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف أيضا.
والعكوف : الإقامة والملازمة له ، يقال : عكف بالفتح يعكف بالضم والكسر ، وقد قرئ : (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ)(١) بالوجهين وقال الفرزدق :
٨٦٧ ـ ترى حولهنّ المعتفين كأنّهم |
|
على صنم في الجاهلية عكّف (٢) |
وقال الطرماح :
٨٦٨ ـ وظلّ بنات اللّيل حولي عكّفا |
|
عكوف البواكي بينهنّ صريع (٣) |
ويقال : الافتعال منه في الخير ، والانفعال في الشّرّ. وأمّا الاعتكاف في الشرع فهو إقامة مخصوصة بشرائط ، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة. وقرأ قتادة : «عكفون» كأنه يقال : عاكف وعكف نحو بار وبرّ ورابّ وربّ. وقرأ الأعمش : «في المسجد» بالإفراد كأنه يريد الجنس.
قوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) مبتدأ وخبر ، واسم الإشارة أخبر عنه بجمع ، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف لأنه شيء واحد ، بل هو إشارة إلى ما تضمّنته آية الصيام من أولها إلى هنا ، وآية الصيام قد تضمّنت عدة أوامر ، والأمر بالشيء نهي عن ضدّه ، فبهذا الاعتبار كانت عدّة مناهي ، ثم جاء آخرها صريح النهي هو : «ولا تباشروهنّ» فأطلق على الكل «حدودا» تغليبا للمنطوق به ، واعتبار بتلك المناهي التي تضمّنتها الأوامر ، فقيل فيها حدود ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل لأنّ المأمور به لا يقال فيه «فلا تقربوها».
قال أبو البقاء : «دخول الفاء هنا عاطفة على شيء محذوف تقديره : تنبّهوا فلا تقربوها» ، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدة كالتي في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(٤) على أحد القولين ، لأنه كان ينبغي أن ينتصب «حدود الله» على الاشتغال ، لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهي نحو : «زيدا فاضربه ، وعمرا فلا تهنه» فلمّا أجمعت القرّاء هنا على الرفع علمنا أنّ هذه الجملة التي هي «فلا تقربوها» منقطعة عمّا قبلها ، وإلّا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.
والحدود : جمع حدّ وهو المنع ، ومنه قيل للبوّاب : حدّاد ، لأنّه يمنع من العبور. وحدّ الشيء منتهاه ومنقطعه ، ولهذا يقال : الحدّ مانع جامع أي : يمنع غير المحدود الدخول في المحدود. والنهي عن القربان أبلغ من
__________________
(١) سورة الأعراف ، آية (١٣٨).
(٢) البيت في ديوانه (٥٦١) ، وهو من شواهد البحر (٢ / ٢٨).
(٣) البيت في ديوانه (٥٦١) ، وهو في اللسان «نبو» ، والطبري (٢ / ٢٢٢).
(٤) سورة البقرة ، آية (٤٠).