قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) قد تقدّم الكلام على «الآن». وفي وقوعه ظرفا للأمر تأويل ، وذلك أنه للزمن الحاضر والأمر مستقبل أبدا ، وتأويله ما قاله أبو البقاء قال : «والآن : حقيقته الوقت الذي أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك ، وعلى المستقبل القريب ، تنزيلا للقريب منزلة الحاضر ، وهو المراد هنا ، لأنّ قوله : «فالآن باشروهنّ» أي : فالوقت الذي كان يحرّم عليكم فيه الجماع من الليل» وقيل : هذا كلام محمول على معناه ، والتقدير : فالآن قد أبحنا لكم مباشرتهنّ ، ودلّ على هذا المحذوف لفظ الأمر فالآن على حقيقته.
وقرئ : «واتّبعوا» (١) من الاتّباع ، وتروى عن ابن عباس ومعاوية بن قرة (٢) والحسن البصري. وفسّروا (ما كَتَبَ اللهُ) بليلة القدر ، أي : اتّبعوا ثوابها ، قال الزمخشري : «وهو قريب من بدع التفاسير».
قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) «حتى» هنا غاية لقوله : «كلوا واشربوا» بمعنى إلى ، ويقال : تبيّن الشيء وأبان واستبان وبان كلّه بمعنى ، وكلّها تكون متعدية ولازمة ، إلّا «بان» فلازم ليس إلّا. و «من الخيط» من لابتداء الغاية وهي ومجرورها في محلّ نصب ب يتبيّن ، لأنّ المعنى : حتى يباين الخيط الأبيض الأسود.
و (مِنَ الْفَجْرِ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون تبعيضية فتتعلّق أيضا ب «يتبيّن» ؛ لأنّ الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله ، ولا يضرّ تعلّق حرفين بلفظ واحد بعامل واحد لاختلاف معناهما.
والثاني : أن تتعلّق بمحذوف على أنها حال من الضمير في الأبيض ، أي : الخيط الذي هو أبيض كائنا من الفجر ، وعلى هذا يجوز أن تكون «من» لبيان الجنس كأنه قيل : الخيط الأبيض الذي هو الفجر.
والثالث : أن يكون تمييزا ، وهو ليس بشيء ، وإنما بيّن قوله : «الخيط الأبيض» بقوله : «من الفجر» ، ولم يبيّن الخيط الأسود فيقول : من الليل اكتفاء بذلك ، وإنما ذكر هذا دون ذاك لأنّه هو المنوط به الأحكام المذكورة من المباشرة والأكل والشّرب.
وهذا من أحسن التشبيهات حيث شبّه بياض النّهار بخيط أبيض ، وسواد الليل بخيط أسود ، حتى إنه لما ذكر عديّ بن حاتم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه فهم من الآية حقيقة الخيط تعجّب منه ، وقال : «إن وسادك لعريض» (٣) ويروى : «إنك لعريض القفا». وقد روي أنّ بعض الصحابة فعل كفعل عديّ ، ويروى أن بين قوله : «الخيط الأبيض» «من الخيط الأسود» عاما كاملا في النزول. وهذا النوع من باب التشبيه من الاستعارة ، لأنّ الاستعارة هي أن يطوى فيها ذكر المشبّه ، وهنا قد ذكر وهو قوله : «من الفجر» ، ونظيره قولك : «رأيت أسدا من زيد» لو لم تذكر : «من زيد» لكان استعارة. ولكنّ التشبيه هنا أبلغ ، لأنّ الاستعارة لا بد فيها من دلالة حالية ، وهنا ليس ثمّ دلالة ، ولذلك مكث بعض الصحابة يحمل ذلك على الحقيقة مدة ، حتى نزل «من الفجر» فتركت الاستعارة وإن كانت أبلغ لما ذكرت لك. والفجر مصدر فجر يفجر أي : انشقّ.
قوله : (إِلَى اللَّيْلِ) فيه وجهان :
__________________
ـ اللغة (١٢ / ٤٤٣) ، (لبس) ، البحر (٤ / ١٥١).
(١) انظر البحر المحيط (٢ / ٥٠).
(٢) روى عن أبيه ومعقل بن يسار توفي سنة ١١٣ ه انظر التهذيب (١٠ / ٢١٧).
(٣) أخرجه مسلم (٢ / ٧٦٧) ، كتاب الصيام (٣٣ ـ ٩٠).