فليس من الاستثناء في شيء. وهذا قول مردود ، وإن كان الأصمعيّ قد قال بزيادة «إلّا» في قوله :
٨١٨ ـ حراجيج لا تنفكّ إلّا مناخة |
|
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا (١) |
فقد ردّ الناس عليه ، ولم يقبلوا قوله. وفي البيت كلام تقدّم.
وأورد بعضهم (٢) هنا سؤالا معنويا : وهو قوله : «لا يسمع إلا دعاء ونداء» ليس المسموع إلا الدعاء والنداء فكيف ذمّهم بأنهم لا يسمعون إلا الدعاء ، وكأنّه قيل : لا يسمعون إلا المسموع ، وهذا لا يجوز؟ فالجواب أنّ في الكلام إيجازا ، وإنما المعنى : لا تفهم معاني ما يقال لهم ، كما لا تميّز البهائم بين معاني الألفاظ التي يصوّت بها ، وإنما تفهم شيئا يسيرا قد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة ، فكأنه قيل : ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأغراض. وهذا السؤال من أصله ليس بشيء ، ولو لا أنّ الشيخ ذكره لم أذكره.
وهنا سؤال آخر : وهو هل هذا من باب التكرار لمّا اختلف اللفظ ، فإنّ الدعاء والنداء واحد؟ والجواب أنه ليس كذلك ، فإنّ الدعاء طلب الفعل والنداء إجابة الصوت. ذكر ذلك عليّ بن عيسى (٣).
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٧٣)
قوله تعالى : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ) : مفعول (كُلُوا) محذوف ، أي : كلوا رزقكم. وفي «من» حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون لابتداء الغاية فتتعلّق ب «كلوا».
والثاني : أن تكون تبعيضيّة فتتعلّق بمحذوف إذ هي حال من ذلك المفعول المقدّر ، أي : كلوا رزقكم حال كونه بعض طيبات ما رزقناكم. ويجوز في رأي الأخفش أن تكون «من» زائدة في المفعول به ، أي : كلوا طيبات ما رزقناكم. و «إن كنتم» شرط وجوابه محذوف ، أي : فاشكروا له. وقول من قال من الكوفيين إنّها بمعنى «إذ» ضعيف. و «إياه» مفعول مقدّم ليفيد الاختصاص ، أو لكون عامله رأس آية ، وانفصاله واجب ، ولأنه متى تأخّر وجب اتّصاله إلا في ضرورة كقوله :
٨١٩ ـ إليك حتّى بلغت إيّاكا (٤) |
|
............... |
__________________
(١) البيت لذي الرمة انظر ديوانه (١٤١٩) ، وهو من شواهد الكتاب (٣ / ٤٨) ، أمالي ابن الشجري (٢ / ١٢٤) ، المحتسب (١ / ٣٢٩) ، ابن يعيش (٧ / ١٠٦) ، الإنصاف (١٠٠) ، الهمع (١ / ١٢٠) ، الدرر (١ / ٨٨).
(٢) انظر البحر المحيط (١ / ٤٨٣).
(٣) علي بن عيسى بن علي بن عبد الله أبو الحسن الرمانيّ كان إماما في العربية علامة في الأدب صاحب التفسير والحدود الأكبر والأصغر وشرح أصول ابن السراج توفي في حادي عشر جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وثلاثمائة البغية (٢ / ١٨٠ ـ ١٨١).
(٤) البيت لحميد الأرقط انظر الكتاب (٢ / ٣٦٢) ، أمالي ابن الشجري (١ / ٤٠) ، الخصائص (١ / ٣٠٧) ، شرح المفصل لابن يعيش (٣ / ١٠٢) ، الإنصاف (٢ / ٦٩٩) ، الخزانة (٥ / ٢٨٠) ، البحر المحيط (٥ / ٥٠١) ، روح المعاني (١٤ / ١٦٣).