أبو بكر بن طاهر (١) ، وابن خروف (٢) والشلوبين (٣) ، قالوا : العرب تستحسن هذا ، وهو من بديع كلامها ، ومثله قوله : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ)(٤) تقديره : وأدخل يدك في جيبك تدخل ، وأخرجها تخرج» فحذف «تدخل» لدلالة «تخرج» وحذف «وأخرجها» لدلالة : «وأدخل» ، قالوا : ومثله قوله :
٨١٦ ـ وإنّي لتعروني لذكراك فترة |
|
كما انتفض العصفور بلّله القطر (٥) |
لم يرد أن يشبّه فترته بانتفاض العصفور حين بلّله القطر لأنهما ضدّان ، إذ هما حركة وسكون ، ولكنّ تقديره : إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر ، كما أنّ العصفور إذا بلّله القطر عراه فترة ثم ينتفض ، غير أنّ وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ، وفترة العصفور قبل انتفاضه.
وهذه الأقوال كلّها إنما هي على القول بتشبيه مفرد بمفرد ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبّه به ، أمّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه جملة بجملة فلا ينظر في ذلك إلى مقابلة الألفاظ المفردة ، بل ينظر إلى المعنى ، وإلى هذا نحا أبو القاسم الراغب. قال الراغب : «فلما شبّه قصة الكافرين في إعراضهم عن الدّاعي لهم إلى الحقّ بقصة الناعق قدّم ذكر الناعق لينبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به».
والكاف ليست بزائدة خلافا لبعضهم ؛ لأنّ الصفة ليست عين الصفة الأخرى فلا بدّ من الكاف ، حتى إنه لو جاء الكلام دون الكاف اعتقدنا وجودها تقديرا تصحيحا للمعنى.
وقد تلخّص ممّا تقدّم أنّ «مثل الذين» مبتدأ ، و «كمثل الذي» خبره : إمّا من غير اعتقاد حذف ، أو على حذف مضاف من الأول ، أي : مثل داعي الذين ، أو من الثاني ، أي : كمثل بهائم الذي ، أو على حذفين : حذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت في الأول تقدّم تحرير ذلك كله. وهذا نهاية القول في هذه الآية الكريمة.
والنّعيق : دعاء الراعي وتصويته بالغنم ، قال :
٨١٧ ـ فانعق بضأنك يا جرير فإنّما |
|
منّتك نفسك في الخلاء ضلالا (٦) |
يقال : نعق بفتح العين ينعق بكسرها ، والمصدر : النّعيق والنّعاق والنّعق ، وأمّا «نغق الغراب» فبالمعجمة ، وقيل : بالمهملة أيضا في الغراب وهو غريب.
قوله : (إِلَّا دُعاءً) هذا استثناء مفرّغ لأنّ قبله «يسمع» ولم يأخذ مفعوله. وزعم بعضهم أنّ «إلّا» زائدة ،
__________________
(١) محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي أبو بكر المعروف بالخرب توفي سنة ٥٨٠ ه البغية (١ / ٢٨).
(٢) علي بن محمد بن علي بن محمد نظام الدين أبو الحسن ابن خروف الأندلسي النحو توفي سنة ٦٠٩ ه انظر البغية (٢ / ٢٠٣).
(٣) عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأستاذ أبو علي الإشبيلي الأزدي المعروف بالشلوبين ـ بفتح المعجمة واللام وسكون الواو وكسر الموحدة وبعدها تحتانية ونون ومعناه بلغة أهل الأندلس الأبيض الأشقر. كان إمام عصره في العربية بلا مدافع توفي في العشر الأخير من صفر سنة خمس وأربعين وستمائة البغية (٢ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥).
(٤) سورة النمل ، آية (١٢).
(٥) تقدم.
(٦) البيت للأخطل انظر ديوانه (٢٥٠) ، الكشاف (١ / ٢١٤) ، وهو من شواهد البحر (١ / ٤٧٧).