ولكن لا توجه هذه القراءة الشاذة بأكثر من ذلك.
قوله : (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ) متعلق ب «كبيرة» ، وهو استثناء مفرغ ، فإن قيل : لم يتقدم هنا نفي ولا شبهه ، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك ؛ فالجواب أن الكلام وإن كان موجبا لفظا ، فإنه في معنى النفي إذ المعنى أنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين ، وهذا التأويل بعينه قد ذكروه في قوله : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(١).
وقال الشيخ (٢) : هو استثناء من مستثنى محذوف تقديره : وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين ، وليس استثناء مفرغا ، لأنه لم يتقدمه نفي ، ولا شبهة ، وقد تقدم جواب ذلك.
قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ) في هذا التركيب وما أشبهه مما ورد في القرآن وغيره نحو : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ) و (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ)(٣) قولان :
أحدهما : قول البصريين ، وهو أن خبر كان محذوف وهذه اللام تسمى لام الجحود ، ينتصب الفعل بعدها بإضمار «أن» وجوبا ، فينسبك منها ، ومن الفعل مصدر منجر بهذه اللام ، وتتعلق هذه اللام بذلك الخبر المحذوف ، والتقدير : وما كان الله مريدا لإضاعة أعمالكم ، وشرط لام الجحود عندهم أن يتقدمها كون منفي ، واشترط بعضهم مع ذلك أن يكون كونا ماضيا ، ويفرق بينهما وبين لام كي ما ذكرنا من اشتراط تقدم كون منفي ، ويدل على مذهب البصريين التصريح بالخبر المحذوف في قوله :
٧٦١ ـ سموت ولم تكن أهلا لتسمو |
|
............... (٤) |
والقول الثاني للكوفيين : وهو أن اللام وما بعدها في محل الخبر ، ولا يقدرون شيئا محذوفا ، ويزعمون أن النصب في الفعل بعدها بنفسها لا بإضمار أن ، وأن اللام للتأكيد ، وقد رد عليهم أبو البقاء فقال : وهو بعيد لأن اللام لام الجر ، و «أن» بعدها مرادة فيصير التقدير على قولهم : وما كان الله إضاعة إيمانكم ، وهذا الرد غير لازم لهم ، فإنهم لم يقولوا بإضمار «أن» بعد اللام كما قدمت نقله عنهم ؛ بل يزعمون النصب بها ؛ وأنها زائدة للتأكيد ، ولكن للرد عليهم موضع غير هذا.
واعلم أن قولك : «ما كان زيد ليقوم» بلام الجحود أبلغ من : «ما كان زيد يقوم» أما على مذهب البصريين فواضح ، وذلك أن مع لام الجحود نفي الإرادة للقيام والتهيئة ، ودونها نفي للقيام فقط ، ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ، إذ لا يلزم من نفي الفعل نفي إرادته ، وأما على مذهب الكوفيين فلأن اللام عندهم للتوكيد والكلام مع التوكيد أبلغ منه بلا توكيد.
وقرأ الضحاك : «ليضيع» بالتشديد ، وذلك أن أضاع وضيع بالهمزة أو التضعيف للنقل من «ضاع» القاصر يقال : ضاع الشيء يضيع وأضعته أي : أهملته فلم أحفظه وأما ضاع المسك يضوع أي : فاح فمادة أخرى.
__________________
(١) سورة البقرة ، آية (٤٥).
(٢) انظر البحر المحيط (١ / ٤٢٥).
(٣) سورة آل عمران ، آية (١٧٩).
(٤) صدر بيت وعجزه :
ولكن المضيع قد يصاب |
|
............... |
انظر التصريح (٢ / ٢٣٥) ، الجنى الداني (١١٩).