دون عليكم ، وهذا الوجه قاله الشيخ (١) مختارا له ردا على الزمخشري مذهبه من أن تقديم المفعول يشعر بالاختصاص ، وقد تقدم ذلك.
قوله : (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) في هذه الآية خمسة أوجه :
أحدها : أن القبلة مفعول أول ، و «التي كنت عليها» مفعول ثان ، فإن الجعل بمعنى التصيير ، وهذا ما جزم به الزمخشري ، فإنه قال : التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جعل ، يريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة ، لأنه صلىاللهعليهوسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس ، ثم حوّل إلى الكعبة.
الثاني : أن «القبلة» هي المفعول الثاني ، وإنما قدم و «التي كنت عليها» هو الأول ، وهذا ما اختاره الشيخ (٢) محتجا له بأن التصيير هو الانتقال من حال إلى حال ، فالملتبس بالحالة الأولى «هو المفعول الأول» ، والملتبس بالحالة الثانية «هو المفعول الثاني» ، ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفا ، وجعلت الجاهل عالما ، والمعنى هنا على هذا التقدير ، وما جعلنا القبلة الكعبة التي كانت قبلة لك أولا ، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس قبلتك الآن إلا لنعلم ، ونسب الزمخشري في جعله «القبلة» مفعولا أول إلى الوهم ، وفيه نظر.
الثالث : أن «القبلة» مفعول أول و «التي كنت» صفتها ، والمفعول الثاني محذوف تقديره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة ، ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قدره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة ، ولا طائل تحته.
الرابع : أن «القبلة» مفعول أول و «إلا نعلم» هو المفعول الثاني ، وذلك على حذف مضاف تقديره : وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم نحو قولك : ضرب زيد للتأديب أي كائن أو ثابت للتأديب.
الخامس : أن «القبلة» مفعول أول ، والثاني محذوف ، و «التي كنت عليها» صفة لذلك المحذوف ، والتقدير : وما جعلنا القبلة القبلة التي ذكره أبو البقاء ، وهو ضعيف ، وفي قوله : «كنت» وجهان :
أحدها : أنها زائدة ، ويروى عن ابن عباس أي : أنت عليها ، وهذا منه تفسير معنى لا إعراب.
والقبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابل نحو : الجلسة ، وفي التعارف صار اسما للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة ، وقال قطرب : يقولون : «ليس له قبلة» أي : جهة يتوجه إليها ، وقال غيره : إذا تقابل رجلان فكل واحد قبلة للآخر.
قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولا ثانيا ، وأما على غيره فهو استثناء مفرغ من المفعول له العام ، أي : ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا ، وقوله : «لنعلم» ليس على ظاهره ، فإن علمه قديم غير حادث ، فلا بد من تأويله ، وفيه أوجه أحدها : لتمييز التابع من الناكص إطلاقا للسبب وإرادة المسبب ، وقيل : على حذف مضاف أي : لنعلم رسولنا فحذف ، أو أراد بذلك تعلق العلم بطاعتهم وعصيانهم في أمر القبلة.
__________________
(١) انظر البحر المحيط (١ / ٤٢٢).
(٢) انظر البحر المحيط (١ / ٤٢٣).