قوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) هذه جملة ابتدائية تضمنت ردودادتهم ذلك. و «يختص» يحتمل أن يكون هنا متعديا ، وأن يكون لازما ، فإن كان متعديا كان فيه ضمير يعود على الله ـ تعالى ـ تكون «من» ـ مفعولا به أي يختص الله الذي يشاؤه برحمته ، ويكون معنى افتعل هنا معنى المجرد نحو : كسب مالا واكتسبه ، وإن كان لازما لم يكن فيه ضمير ويكون فاعله «من» أي : والله يختص برحمته الشخص الذي يشاؤه ، ويكون افتعل بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو اضطراب والاختصاص ضد الاشتراك ، وبهذا تبين فساد قول من زعم أنه هنا متعد ليس إلا. و «من» يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة ، وعلى كلا التقديرين فلا بد من تقدير عائد أي : يشاء اختصاصه ، ويجوز أن يضمن «يشاء» معنى يختار فحينئذ لا حاجة إلى حذف مضاف ، بل تقدره ضميرا فقط أي : يشاؤه و «يشاء» على القول الأول لا محل له لكونه صلة ، وعلى الثاني محله النصب أو الرفع على ما ذكر في موصوفه من كونه فاعلا أو مفعولا.
(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٠٦)
قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ) في «ما» قولان :
أحدهما : ـ وهو الظاهر ـ أنها مفعول مقدم للنسخ وهي شرطية جازمة له ، والتقدير : أي شيء ننسخ ، مثل قوله (أَيًّا ما تَدْعُوا)(١).
والثاني : أنها شرطية أيضا جازمة للنسخ ، ولكنها واقعة موقع المصدر و «من آية» هو المفعول به والتقدير : أي نسخ ننسخ آية قاله أبو البقاء وغيره ، وقالوا : مجيء «ما» مصدرا جائز وأنشدوا :
٦٧٥ ـ نعب الغراب فقلت : بين عاجل |
|
ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب (٢) |
وقد رد هذا القول بعضهم (٣) بشيئين :
أحدهما : أنه يلزم خلو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط وهو غير جائز ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك عند قوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)(٤).
والثاني : أن «من» لا تزاد في الموجب والشرط موجب ، وهذا فيه خلاف لبعض البصريين : أجاز زيادتها في الشرط ، لأنه يشبه النفي ولكنه خلاف ضعيف.
وقرأ ابن عامر : «ننسخ» بضم النون وكسر السين من أنسخ قال أبو حاتم : «هو غلط» وهذه جراءة منه على عادته ، وقال أبو علي : ليست لغة لأنه لا يقال : نسخ وأنسخ بمعنى ولا هي للتعدية ، لأن المعنى يجيء : ما نكتب من آية وما ننزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا ، وليس الأمر كذلك فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نجده منسوخا كما يقال : أحمدته وأبخلته أي : وجدته كذلك ثم قال : «وليس نجده منسوخا إلا بأن ينسخه فتتفق القراءتان
__________________
(١) سورة الإسراء ، آية (١١٠).
(٢) البيت من شواهد البحر (١ / ٣٤٣).
(٣) انظر البحر المحيط (١ / ٣٤٣).
(٤) سورة البقرة ، آية (٩٧).