قوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : في «من» قولان :
أحدهما : أنها للتبعيض فتكون هي ومجرورها في محل نصب على الحال ويتعلق بمحذوف أي : ما يود الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب.
والثاني : أنها لبيان الجنس ، وبه قال الزمخشري.
قوله : (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) عطف على «أهل» المجرور بمن «ولا» زائدة للتوكيد لأن المعنى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، كقوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ)(١) بغير زيادة «لا» وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار ، وأن الأصل : ولا المشركون عطفا على الذين ، وإنما خفض للمجاورة نحو (بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)(٢) في قراءة الجر ، وليس بواضح ، وقال النحاس : ويجوز ولا المشركون بعطفه على «الذين» وقال أبو البقاء : «وإن كان قد قرئ «ولا المشركون» بالرفع فهو عطف على الفاعل ، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك ، وهذان القولان يؤيدان ادعاء الخفض على الجوار.
قوله : (أَنْ يُنَزَّلَ) ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول ب «يود» أي : ما يود إنزال خير ، وبني الفعل للمفعول للعلم بالفاعل وللتصريح به في قوله : «من ربكم» وأتى ب «ما» في النفي دون غيرها لأنها النفي الحال ، وهم كانوا متلبسين بذلك.
قوله : (مِنْ خَيْرٍ) هذا القائم مقام الفاعل و «من» زائدة أي : أن ينزل خير من ربكم. وحسن زيادتها هنا ، وإن كان «ينزل» لم يباشره حرف النفي لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى ، لأنه إذا نفيت الودادة انتفى متعلقها ، وهذا له نظائر في كلامهم نحو : «ما أظن أحدا يقول ذلك إلا زيد» يرفع «زيد» بدلا من فاعل «يقول» وإن لم يباشر النفي لكنه في قوة : «ما يقول أحد ذلك إلا زيد في ظني» وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ)(٣) زيدت الباء لأنه في معنى : أو ليس الله بقادر ، وهذا على رأي سيبويه وأتباعه ، وأما الكوفيون والأخفش فلا يحتاجون إلى شيء من هذا ، وقيل : «من» للتبعيض أي : ما يودون أن ينزل من الخير قليل ولا كثير ، فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل : «عليكم» والمعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخيور.
قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) في «من» أيضا قولان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية فتتعلق بينزل.
والثاني : أنها للتبعيض ، ولا بد حينئذ من حذف مضاف تقديره : من خيور ربكم ، وتتعلق حينئذ بمحذوف لأنها ومجرورها صفة لقوله : «من خير» أي : من خير كائن من خيور ربكم ، ويكون في محلها وجهان : الجر على اللفظ ، والرفع على الموضع ، لأن «من» زائدة في «خير» فهو مرفوع تقديرا لقيامه مقام الفاعل كما تقدم. وتلخص مما تقدم أن في كل واحدة من لفظ «من» قولين الأولى : قيل إنها للتبعيض وقيل : لبيان الجنس. وفي الثانية قولان : زائدة أو للتبعيض. وفي الثالثة أيضا قولان : ابتداء الغاية أو التبعيض.
__________________
(١) سورة البينة ، آية (١).
(٢) سورة المائدة ، آية (٦).
(٣) سورة الأحقاف ، آية (٣٣).