قوله : (لا تَعْبُدُونَ) قرئ بالياء والتاء (١) ، وهو ظاهر. فمن قرأ بالغيبة فلأنّ الأسماء الظاهرة حكمها الغيبة ، ومن قرأ بالخطاب فهو التفات ، وحكمته أنّه أدعى لقبول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه ، وجعل أبو البقاء قراءة الخطاب على إضمار القول. قال : «يقرأ بالتاء على تقدير : قلنا لهم : لا تعبدون إلا الله» وكونه التفاتا أحسن ، وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه :
أظهرها : أنّها مفسّرة لأخذ الميثاق ، وذلك أنه لمّا ذكر تعالى أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان في ذلك إيهام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجملة مفسّرة له ، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.
الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من «بني إسرائيل» وفيها حينئذ وجهان :
أحدهما : أنّها حال مقدّرة بمعنى أخذنا ميثاقهم مقدّرين التوحيد أبدا ما عاشوا.
والثاني : أنها حال مقارنة بمعنى : أخذنا ميثاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد ، قاله أبو البقاء ، وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرّد ، وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح ، خلافا لمن أجاز مجيئها من المضاف إليه مطلقا ، لا يقال المضاف إليه معمول في المعنى لميثاق ، لأنّ ميثاقا إمّا مصدر أو في حكمه ، فيكون ما بعده إمّا فاعلا أو مفعولا ، وهو غير جائز لأنّ من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحلّ لحرف مصدري وفعل وهذا لا ينحلّ لهما ، لو قدّرت : وإذا أخذنا أن نواثق بني إسرائيل أو يواثقنا بنو إسرائيل لم يصحّ ، ألا ترى أنّك لو قلت : أخذت علم زيد لم يتقدّر بقول : أخذت أن يعلم زيد ، ولذلك منع ابن الطراوة (٢) في ترجمة سيبويه : «هذا باب علم ما الكلم من العربية» أن يقدّر المصدر بحرف مصدري والفعل ، وردّ وأنكر على من أجازه.
الثالث : أن يكون جوابا لقسم محذوف دلّ عليه لفظ الميثاق ، أي : استحلفناهم أو قلنا لهم : بالله لا تعبدون. ونسب هذا الوجه لسيبويه ووافقه الكسائي والفراء والمبرّد.
الرابع : أن يكون على تقدير حذف حرف الجرّ ، وحذف أن ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم على أن لا تعبدوا أو بأن لا تعبدوا ، فحذف حرف الجر لأنّ حذفه مطّرد مع أنّ وأن كما تقدّم غير مرة ، ثم حذفت «أن» الناصبة فارتفع الفعل بعدها ونظيره قول طرفة :
٥٧٢ ـ ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى |
|
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي (٣) |
وحكوا عن العرب : «مره يحفرها» أي : بأن يحفرها ، والتقدير : عن أن أحضر ، وبأن يحفرها ، وفيه نظر ، فإنّ إضمار «أن» لا ينقاس ، إنّما يجوز في مواضع عدّها النّحويون وجعلوا ما سواها شاذا قليلا ، وهو الصحيح خلافا للكوفيين. وإذا حذفت «أن» فالصحيح جواز النصب والرفع ، وروي : «مره يحفرها» ، «وأحضر الوغى» بالوجهين ، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافا لأبي الحسن حيث التزم رفعه. وللبحث موضع غير هذا هو أليق به. وأيّد
__________________
(١) انظر البحر المحيط (١ / ٢٨٢).
(٢) سليمان بن محمد بن عبد الله السبائي المالقي أبو الحسين ابن الطراوة ـ بفتح الطاء والراء المهملتين صاحب الترشيح في النحو توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة البغية (١ / ٦٠٢).
(٣) تقدم.