هو جواب لقوله : «فذاك بنا تداني» ، فقوله تعالى : «بلى» ردّ لقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أي : بلى تمسّكم أبدا ، بدليل قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) قاله الزمخشري ، يريد أن «أبدا» في مقابلة قولهم : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) وهو تقدير حسن. والبصريون يقولون : إنّ «بلى» حرف بسيط. وزعم الكوفيون أنّ أصلها بل التي للإضراب ، زيدت عليها الياء ليحسن الوقف عليها ، وضمّنت الياء معنى الإيجاب ، قيل : تدلّ على ردّ النفي والياء تدلّ على الإيجاب ، يعنون بالياء الألف ، وإنما سمّوها ياء لأنّها تمال وتكتب بالياء ، ولتحقيق المذهبين موضع غير هذا ، وسيأتي الكلام إن شاء الله في بقية حروف الجواب.
قوله : (مَنْ كَسَبَ) يجوز «من» وجهان ، أحدهما : أن تكون موصولة بمعنى الذي. والخبر قوله : «فأولئك» ، وجاز دخول الفاء في الخبر لاستكمال الشروط المذكورة فيما تقدّم. ويؤيّد كونها موصوفة ذكر قسيمها موصولا وهو قوله : «والذين كفروا» ، ويجوز أن تكون شرطية ، والجواب قوله «فأولئك» وعلى كلا القولين فمحلّها الرفع بالابتداء ، لكن إذا قلنا إنها موصولة كان الخبر : «فأولئك» وما بعد بلا خلاف ، ولا يكون لقوله «كسب سيئة» وما عطف عليه محلّ من الإعراب لوقوعه صلة ، وإذا قلنا إنها شرطية فيجيء في خبرها الخلاف المشهور : إمّا الشرط أو الجزاء أو هما ، حسبما تقدّم ، ويكون قوله «كسب» وما عطف عليه في محلّ جزم بالشرط.
و «سيئة» مفعول به ، وأصلها : سيوئة ، لأنّها من ساء يسوء ، فوزنها فيعلة ، فاجتمع الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون ، فأعلّت إعلال سيّد وميّت ، وقد تقدّم. وراعى لفظ «من» مرة فأفرد في قوله «كسب» ، و «به» و «خطيئته» ، والمعنى مرة أخرى ، فجمع في قوله : «فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون». وقرأ نافع وأهل المدينة : «خطيئاته» بجمع السلامة ، والجمهور : «خطيئته» بالإفراد. ووجه القراءتين ينبني على معرفة السيئة والخطيئة. وفيهما أقوال.
أحدهما : أنهما عبارتان عن الكفر بلفظين مختلفين.
الثاني : السيئة الكفر ، والخطيئة الكبيرة.
الثالث : عكس الثاني. فوجه قراءة الجماعة على الأول والثالث أنّ المراد بالخطيئة الكفر وهو مفرد ، وعلى الوجه الثاني أنّ المراد به جنس الكبيرة. ووجه قراءة نافع على الوجه الأول والثالث أنّ المراد بالخطيئات أنواع الكفر المتجدّدة في كلّ وقت ، وعلى الوجه الثاني أنّ المراد به الكبائر وهي جماعة. وقيل : المراد بالخطيئة نفس السيئة المتقدّمة فسمّاها بهذين الاسمين تقبيحا لها ، كأنّه قال : وأحاطت به خطيئته تلك ، أي السيئة ، ويكون المراد بالسيئة الكفر ، أو يراد بهم العصاة ، ويكون أراد بالخلود المكث الطويل ، ثم بعد ذلك يخرجون.
وقوله : (فَأُولئِكَ أَصْحابُ) إلى آخره تقدّم نظيره (١) فلا حاجة إلى إعادته. وقرئ (٢) «خطاياه» تكسيرا ، وهذه مخالفة لسواد المصحف ، فإنه رسم «خطيئته» بلفظ التوحيد. وقد تقدّم القول في تصريف خطايا.
قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا) .. «إذ» معطوف على الظروف التي قبله ، وقد تقدّم ما فيه من كونه متصرفا أو لا. و «أخذنا» في محلّ خفض ، أي : واذكر وقت أخذنا ميثاقهم أو نحو ذلك.
__________________
(١) سورة البقرة ، آية (٣٩).
(٢) انظر البحر المحيط (١ / ٢٧٩).