قوله : (كُلُّ أُناسٍ) قد تقدّم الكلام على أنه أصل الناس. وقال الزمخشري في
سورة الأعراف : إنه اسم جمع غير تكسير ، ثم قال : «ويجوز أن يكون
الأصل الكسر ، والتكسير والضمة بدل من الكسرة ، كما أبدلت في سكارى من الفتحة
وسيأتي تحرير البحث معه إن شاء الله تعالى في السورة المذكورة».
قوله : (مَشْرَبَهُمْ) مفعول ل «علم» بمعنى عرف ، والمشرب هنا موضع الشّرب ؛
لأنه روي أنه كان لكلّ سبط عين من اثنتي عشرة عينا لا يشركه فيها سبط غيره. وقيل :
هو نفس المشروب. فيكون مصدرا واقعا موقع المفعول به.
قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) هاتان الجملتان في محلّ نصب بقول مضمر ، تقديره : وقلنا
لهم كلوا واشربوا ، وقد تقدّم تصريف «كل» وما حذف منه.
قوله : (مِنْ رِزْقِ اللهِ) هذه من باب الإعمال لأنّ كلّ واحد من الفعلين يصح
تسلّطه عليه ، وهو من باب إعمال الثاني للحذف من الأول ، والتقدير : وكلوا منه.
و «من» يجوز أن
تكون لابتداء الغاية وأن تكون للتبعيض ، ويجوز أن يكون مفعول الأكل محذوفا ، وكذلك
مفعول الشّرب ، للدلالة عليهما ، والتقدير : كلوا المنّ والسّلوى ، لتقدّمهما في
قوله : (وَأَنْزَلْنا
عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) واشربوا ماء العيون المتفجرة ، وعلى هذا فالجارّ
والمجرور يحتمل تعلّقه بالفعل قبله ، ويحتمل أن يكون حالا من ذلك المفعول المحذوف
، فيتعلّق بمحذوف. وقيل : المراد بالرزق الماء وحده ، ونسب الأكل إليه لمّا كان
سببا في نماء ما يؤكل وحياته فهو رزق يؤكل منه ويشرب ، والمراد بالرزق المرزوق ،
وهو يحتمل أن يكون من باب ذبح ورعي. وأن يكون من باب «درهم ضرب الأمير» ، وقد
تقدّم بيان ذلك.
قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ) أصل «تعثوا» : تعثيوا ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت
فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما وهو الياء ، أو لمّا تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها
قلبت ألفا ، فالتقى ساكنان فحذفت الألف وبقيت الفتحة تدلّ عليها وهذا أولى ، فوزنه
تفعون. والعثيّ والعيث : أشدّ الفساد وهما متقاربان. وقال بعضهم : «إلّا أنّ العيث
أكثر ما يقال فيما يدرك حسّا ، والعثيّ فيما يدرك حكما ، يقال : عثى يعثى عثيّا
وهي لغة القرآن ، وعثا يعثو عثوّا وعاث يعيث عثيّا ، وليس عاث مقلوبا من عثى كجبذ
وجذب لتفاوت معنييهما كما تقدّم ، ويحتمل ذلك ، ثم اختصّ كل واحد بنوع. ويقال :
عثي يعثى عثيّا ومعاثا ، وليس عثي أصله عثو ، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها
كرضي من الرّضوان لثبوت العثيّ وإن توهّم بعضهم ذلك. وعثا كما تقدّم ، ويقال : عثّ
يعثّ مضاعفا أي فسد ، ومنه : العثّة سوسة تفسد الصوف ، وأمّا «عتا» بالتاء
المثنّاة فهو قريب من معناه وسيأتي الكلام عليه.
و «مفسدين» حال
من فاعل «تعثوا» ، وهي حال مؤكّدة ، لأنّ معناها قد فهم من عاملها ، وحسّن ذلك
اختلاف اللفظين ، ومثله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ) ، هكذا قالوا ، ويحتمل أن تكون حالا مبيّنة ، لأنّ
الفساد أعمّ والعثيّ أخصّ كما تقدّم ، ولهذا قال الزمخشري : «فقيل لهم : لا
تتمادوا في الفساد في حال فسادكم» ، لأنهم كانوا متمادين فيه ، فغاير بينهما كما
ترى.
__________________