وجميع رواية أبي عمرو دائرة على التخفيف ، ولذلك يدغم المثلين والمتقاربين ويسهّل الهمزة ويسكّن نحو : (يَنْصُرْكُمُ)(١) ، و (يَأْمُرُكُمْ)(٢) ، و «بأعلم الشاكرين» (٣) على تفصيل معروف عند القرّاء. وروي عنه إبدال هذه الهمزة الساكنة ياء كأنه لم يعتدّ بالحركة المقدّرة ، وبعضهم ينكر ذلك عنه ، فهذه أربع قراءات لأبي عمرو. وروى ابن عطية عن الزهري (٤) «باريكم» بكسر الياء من غير همز ، قال : «ورويت عن نافع» ، قلت : من حقّ هذا القارئ أن يسكّن الياء لأنّ الكسرة ثقيلة عليها ، ولا يجوز ظهورها إلا في ضرورة شعر كقول أبي طالب :
٤٨١ ـ كذبتم وبيت الله نبزي محمّدا |
|
ولم تختضب سمر العواليّ بالدّم (٥) |
وقرأ قتادة (٦) : «فاقتالوا» وقال : هي من الاستقالة ، قال ابن جني : «اقتال : افتعل ، ويحتمل أن تكون عينها واوا كاقتادوا أو ياء كاقتاس ، والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة» ، ولكن قتادة ينبغي أن يحسن الظّنّ به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجّة عنده.
والبارئ هو الخالق ، برأ الله الخلق أي خلقهم ، وقد فرّق بعضهم بين الخالق والبارئ بأنّ البارئ هو المبدع المحدث ، والخالق هو المقدّر الناقل من حال إلى حال. وأصل هذه المادة يدل على الانفصال والتميّز ، ومنه : برأ المريض برءا وبرءا وبرئت وبرأت أيضا من الدّين براءة ، والبريّة الخلق ، لأنهم انفصلوا من العدم إلى الوجود ، إلا أنّه يهمز ، وقيل : أصله من البرى وهو التراب ، وسيأتي تحقيق القولين في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) قال بعضهم : «ذلكم مفرد واقع موقع «ذانكم» المثنّى ، لأنه قد تقدّم اثنان : التوبة والقتل. قال أبو البقاء : «وهذا ليس بشيء ، لأنّ قوله : «فاقتلوا» تفسير التوبة هو واحد» و «خير» أفعل تفضيل وأصله : أخير ، وإنما حذفت همزته تخفيفا ، ولا ترجع هذه الهمزة إلا في ضرورة ، قال :
٤٨٢ ـ بلال خير الناس وابن الأخير (٧) |
|
............... |
ومثله شرّ ، لا يجوز أشرّ ، إلا في ندور ، وقد قرئ : «من الكذاب الأشر» (٨) وإذا بني من هذه المادة فعل تعجّب على أفعل فلا تحذف همزته إلا في ندور كقولهم : «ما خير اللبن للصحيح ، وما شرّه للمبطون» فخير وشرّ قد خرجا عن نظائرهما في باب التفضيل والتعجّب ، و «خير» أيضا مخفّفة من خيّر على فيعل ولا يكون من هذا الباب ، ومنه : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ)(٩) قال بعضهم : «مخفّف من خيّرات». والمفضّل عليه محذوف للعلم به ، أي : خير لكم من عدم التوبة. ولأفعل التفضيل أحكام كثيرة وشروط منتشرة لا يحتملها هذا الكتاب ، وإنما نأتي منها بما نضطرّ إليه.
قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) في الكلام حذف ، وهو : ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم. والفاء
__________________
(١) سورة آل عمران ، آية (١٦٠).
(٢) سورة البقرة ، آية (٦٧).
(٣) سورة الأنعام ، آية (٥٣).
(٤) محمد بن مسلم بن شهاب الزهري من ثقات التابعين توفي سنة ١٢٤ ه ، انظر غاية النهاية (٢ / ٢٦٢).
(٥) البيت في الهمع (١ / ٥٣) ، الدرر (١ / ٣٠) ، البحر (١ / ٢٠٧).
(٦) قتادة بن دعامة الدوسي من ثقات التابعين توفي سنة ١٨٨ ه غاية النهاية (٢ / ٢٥).
(٧) البيت من شواهد البحر (١ / ٢٠٤) ، القرطبي (١٧ / ١٣٩) ، الدرر (٢ / ٢٢٤).
(٨) سورة القمر ، آية (٢٦).
(٩) سورة الرحمن ، آية (٧٠).