والمشهور جرّ تاء «الملائكة» بالحرف ، وقرأ أبو جعفر (١) بالضمّ إتباعا لضمة الجيم (٢) ، ولم يعتدّ بالساكن ، وغلّطه الزجّاج ، وخطّأه الفارسي ، وشبّهه بعضهم بقوله تعالى : (وَقالَتِ اخْرُجْ) بضم تاء التأنيث ، وليس بصحيح لأنّ تلك حركة التقاء الساكنين وهذه حركة إعراب فلا يتلاعب بها ، والمقصود هناك يحصل بأيّ حركة كانت. وقال الزمخشري : «لا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية إلا في لغة ضعيفة كقراءة : «الحمد لله» يعني بكسر الدال» ، قلت : وهذا أكثر شذوذا ، وأضعف من ذاك مع ما في ذاك من الضعف المتقدّم ، لأنّ هناك فاصلا وإن كان ساكنا ، وقال أبو البقاء : «وهي قراءة ضعيفة جدا ، وأحسن ما تحمل عليه أن يكون الراوي لم يضبط عن القارئ وذلك أن القارئ أشار إلى الضمّ تنبيها على أنّ الهمزة المحذوفة مضمومة في الابتداء فلم يدرك الراوي هذه الإشارة. وقيل : إنه نوى الوقف على التاء ساكنة ثم حرّكها بالضم إتباعا لحركة الجيم ، وهذا من إجراء الوصل مجرى الوقف. ومثله : ما روي عن امرأة رأت رجلا مع نساء فقالت : «أفي سوءة أنتنّه» نوت الوقف على «سوءة» فسكّنت التاء ثم ألقت عليها حركة همزة «أنتنّ». قلت : فعلى هذا تكون هذه الحركة حركة التقاء ساكنين ، وحينئذ يكون كقوله : «قالت اخرج» وبابه ، وإنما أكثر الناس توجيه هذه القراءة لجلالة قارئها أبي جعفر يزيد بن القعقاع شيخ نافع شيخ أهل المدينة ، وترجمتهما مشهورة.
و «اسجدوا» في محلّ نصب بالقول ، واللام في «لآدم» الظاهر أنها متعلقة باسجدوا ، ومعناها التعليل أي لأجله وقيل : بمعنى إلى ، أي : إلى جهته لأنه جعل قبلة لهم ، والسجود لله. وقيل : بمعنى مع لأنه كان إمامهم كذا نقل ، وقيل : اللام للبيان فتتعلّق بمحذوف ولا حاجة إلى ذلك.
و «فسجدوا» الفاء للتعقيب ، والتقدير : فسجدوا له ، فحذف الجارّ للعلم به. قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ) [إلا] حرف استثناء ، و «إبليس» نصب على الاستثناء. وهل نصبه بإلّا وحدها أو بالفعل وحده أو به بوساطة إلا ، أو بفعل محذوف أو ب «أنّ»؟ أقوال ، وهل هو استثناء متصل أو منقطع؟ خلاف مشهور ، والأصحّ أنه متصل. وأمّا قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ)(٣) فلا يردّ هذا لأنّ الملائكة قد يسمّون جنّا لاجتنانهم قال :
٣٥٩ ـ وسخّر من جنّ الملائك تسعة |
|
قياما لديه يعملون بلا أجر (٤) |
وقال تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً)(٥) يعني الملائكة.
واعلم أنّ المستثنى على أربعة أقسام : قسم واجب النصب ، وقسم واجب الجرّ ، وقسم جائز فيه النصب والجرّ ، وقسم جائز فيه النصب والبدل ممّا قبله والأرجح البدل.
القسم الأول : المستثنى من الموجب والمقدّم والمكرر والمنقطع عند الحجاز مطلقا ، والواقع بعد لا يكون وليس وما خلا وما عدا عند غير الجرميّ (٦) ، نحو : قام القوم إلا زيدا ، ما قام إلا زيدا القوم ، وما قام أحد إلا زيدا إلا
__________________
(١) يزيد بن القعقاع المخزومي بالولاء المدني أبو جعفر أحد القراء العشرة من التابعين ، كان إمام أهل المدينة في القراءة وعرف بالقارئ وكان من المفتين المجتهدين ، توفي في المدينة سنة ١٣٢ ه. غاية النهاية (٢ / ٣٨٢) ، الأعلام (٨ / ١٨٦).
(٢) انظر البحر المحيط (١ / ١٥٢).
(٣) سورة الكهف ، آية (٥٠).
(٤) البيت للأعشى وليس في ديوانه. الطبري (١ / ٥٠٦).
(٥) سورة الصافات ، آية (١٥٨).
(٦) صالح بن إسحاق أبو عمر الجرمي البصريّ مولى جرم بن زبان من قبائل اليمن انتهى إليه علم النحو في زمانه ، توفي سنة خمس وعشرين ومائتين. البغية (٢ / ٨ ـ ٩).