إنكارا لوجوده على الطريق البرهاني».
وفي الكلام التفات من الغيبة في قوله : «وأمّا الذين كفروا إلى آخره ، إلى الخطاب في قوله : «تكفرون ، وكنتم». وفائدته أنّ الإنكار إذا توجّه إلى المخاطب كان أبلغ. وجاء «تكفرون» مضارعا لا ماضيا لأنّ المنكر الدوام على الكفر ، والمضارع هو المشعر بذلك ، ولئلا يكون ذلك توبيخا لمن آمن بعد كفر.
و «كفر» يتعدّى بحرف الجر نحو : (تَكْفُرُونَ بِاللهِ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ)(١) (كَفَرُوا بِالذِّكْرِ)(٢) ، وقد تعدّى بنفسه في قوله تعالى : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ)(٣) وذلك لمّا ضمّن معنى جحدوا.
قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) الواو واو الحال ، وعلامتها أن يصلح موضعها «إذ» ، وجملة «كنتم أمواتا» في محلّ نصب على الحال ، ولا بد من إضمار «قد» ليصحّ وقوع الماضي حالا. وقال الزمخشري : «فإن قلت : كيف صحّ أن يكون حالا وهو ماض بها؟ قلت : لم تدخل الواو على «كنتم أمواتا» وحده ، ولكن على جملة قوله : «كنتم أمواتا» إلى «ترجعون» ؛ كأنه قيل : كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ، ثم يميتكم بعد هذه الحياة ، ثم يحييكم بعد الموت ثم يحاسبكم». ثم قال : «فإن قلت : بعض القصة ماض وبعضها مستقبل ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصحّ أن يقع حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجودها هو حال عنه فما الحاضر الذي وقع حالا؟ قلت : هو العلم بالقصة كأنه قيل : كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وبآخرها»؟
قال الشيخ (٤) ما معناه : هذا تكلّف ، يعني تأويله هذه الجملة بالجملة الاسمية. قال : «والذي حمله على ذلك اعتقاده أنّ الجمل مندرجة في حكم الجملة الأولى». قال : «ولا يتعيّن ، بل يكون قوله تعالى : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وما بعده جملا مستأنفة أخبر بها تعالى لا داخلة تحت الحال ، ولذلك غاير بينها وبين ما قبلها من الجمل بحرف العطف وصيغة الفعل السابقين لها في قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ).
والفاء في قوله : (فَأَحْياكُمْ) على بابها من التعقيب ، و «ثم» على بابها من التراخي ، لأنّ المراد بالموت الأول العدم السابق ، وبالحياة الأولى الخلق ، وبالموت الثاني الموت المعهود ، وبالحياة الثانية الحياة للبعث ، فجاءت الفاء و «ثم» على بابهما من التعقيب والتراخي على هذا التفسير وهو أحسن الأقوال ، ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد (٥) ، والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن البعث. والضمير في «إليه» لله تعالى ، وهذا ظاهر لأنه كالضمائر قبله وثمّ مضاف محذوف أي : إلى ثوابه وعقابه. وقيل : على الجزاء على الأعمال. وقيل : على المكان الذي يتولّى الله فيه الحكم بينكم. وقيل : على الإحياء المدلول عليه بأحياكم ، يعني أنكم ترجعون إلى الحال الأولى التي كنتم عليها في ابتداء الحياة الأولى من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئا.
__________________
(١) سورة آل عمران ، آية (٧٠).
(٢) سورة فصلت ، آية (٤١).
(٣) سورة هود ، آية (٦٨).
(٤) انظر البحر المحيط (١ / ١٣٠).
(٥) مجاهد بن جبر ، أبو الحجاج المكي مولى بني مخزوم تابعي ثقة مفسر من أهل مكة. قال الذهبي : شيخ القراء والمفسرين ، توفي سنة ١٠٤ ه. غاية النهاية (٢ / ٤١) ، ميزان الاعتدال (٣ / ٩) ، حلية الأولياء (٣ / ٢٧٩) ، الأعلام (٥ / ٢٧٨).