أن لو قيل : لم يرها ، لأنه لم يقارب الرؤية فكيف له بها؟ وزعم جماعة منهم ابن جني (١) وأبو البقاء وابن عطية أنّ نفيها إثبات وإثباتها نفي ، حتى ألغز بعضهم فيها فقال :
٢٤٤ ـ أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة |
|
جرت في لساني جرهم وثمود |
إذا نفيت ـ والله أعلم ـ أثبتت |
|
وإن أثبتت قامت مقام جحود (٢) |
وحكوا عن ذي الرمة أنه لمّا أنشد قوله :
٢٤٥ ـ إذا غيّر النأي المحبّين لم يكد |
|
رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (٣) |
عيب عليه لأنه قال : لم يكد يبرح فيكون قد برح ، فغيّره إلى قوله : «لم يزل» أو ما هو بمعناه ، والذي غرّ هؤلاء قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(٤) قالوا : فهي هنا منفيّة وخبرها مثبت في المعنى ، لأن الذبح وقع لقوله : (فَذَبَحُوها). والجواب عن هذه الآية من وجهين :
أحدهما : أنه يحمل على اختلاف وقتين ، أي : ذبحوها في وقت ، وما كادوا يفعلون في وقت آخر.
والثاني : أنه عبّر بنفي مقاربة الفعل عن شدّة تعنّتهم وعسرهم في الفعل. وأمّا ما حكوه عن ذي الرّمّة فقد غلّط الجمهور ذا الرّمة في رجوعه عن قوله وقالوا : هو أبلغ وأحسن ممّا غيّره إليه.
واعلم أنّ خبر «كاد» وأخواتها ـ غير عسى ـ لا يكون فاعله إلا ضميرا عائدا على اسمها ، لأنها للمقاربة أو للشروع بخلاف عسى ، فإنها للترجّي ، تقول : «عسى زيد أن يقوم أبوه» ، ولا يجوز ذلك في غيرها ، فأمّا قوله :
٢٤٦ ـ وقفت على ربع لميّة ناقتي |
|
فما زلت أبكي عنده وأخاطبه |
وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه |
|
تكلّمني أحجاره وملاعبه (٥) |
فأتى بالفاعل ظاهرا فقد حمله بعضهم على الشذوذ ، وينبغي أن يقال : إنما جاز ذلك لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الرّبع ، فهي هو ، فكأنه قيل : حتى كاد يكلّمني ، ولكنه عبّر عنه بمجموع أجزائه ، وقول الآخر :
٢٤٧ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني |
|
ثوبي فأنهض نهض الشارب السّكر |
وكنت أمشي على رجلين معتدلا |
|
فصرت أمشي على أخرى من الشجر (٦) |
فأتى بفاعل خبر جعل ظاهرا ، فقد أجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أنه على حذف مضاف تقديره : وقد جعل ثوبي إذا ما قمت يثقلني.
__________________
(١) عثمان بن جني ـ بسكون الياء معرب كنّي ـ أبو الفتح من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف صاحب الخصائص ، توفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. بغية الوعاة (٢ / ١٣٢).
(٢) البيتان لأبي العلاء المعري. انظرهما في الهمع (١ / ١٣٢) ، الأشموني (١ / ٢٦٨) ، الدرر (١ / ١١٠).
(٣) البيت في ديوانه (١١٩٢). وانظر شرح المفصل لابن يعيش (٧ / ١٢٤) ، الأشموني (١ / ٢٦٨) ، الخزانة (٤ / ١٧٤).
(٤) سورة البقرة ، آية (٧١).
(٥) البيتان لذي الرمة. انظر ديوانه (٨٢١) ، الكتاب (٢ / ٢٣٥) ، الأشموني (١ / ٢٦٣) ، أمالي ابن الشجري (٢ / ٢٩) ، الدرر (١ / ١٠٨).
(٦) البيتان لابن أحمر الباهلي ، وينسب لعبد من عبيد بجيلة وينسب لأبي حية النميري. انظر أمالي القالي (٢ / ١٦٣) ، الخصائص (١ / ٢٠٧) ، الدرر (١ / ١٠٢) ، الشذور (١٩٠).