هم صمّ بكم عمي ، ويجيء فيه الخلاف المشهور في تعدّد الخبر ، فمن أجاز ذلك حمل الآية عليه من غير تأويل ، ومن منع ذلك قال : هذه الأخبار وإن تعدّدت لفظا فهي متّحدة معنى ، لأنّ المعنى : هم غير قائلين للحقّ بسبب عماهم وصممهم ، فيكون من باب : «هذا حلو حامض» أي مزّ ، و «هو أعسر يسر» أي أضبط ، وقول الشاعر :
٢٢٤ ـ ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي |
|
بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع (١) |
أي متحرّز ، أو يقدّر لكلّ خبر مبتدأ تقديره : هم صمّ ، هم بكم ، هم عمي ، والمعنى على أنهم جامعون لهذه الأوصاف الثلاثة ، ولو لا ذلك لجاز أن تكون هذه الآية من باب ما تعدّد فيه الخبر لتعدّد المبتدأ ، نحو قولك : الزيدون فقهاء شعراء كاتبون ، فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن بعضهم فقهاء ، وبعضهم شعراء وبعضهم كاتبون ، وأنّهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة ، بل بعضهم اختصّ بالفقه ، والبعض الآخر بالشعر ، والآخر بالكتابة.
وقرئ (٢) بنصبها ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه حال ، وفيه قولان ، أحدهما : هو حال من الضمير المنصوب في «تركهم» ، والثاني من المرفوع في «لا يبصرون».
والثاني : النصب على الذمّ ، كقوله : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)(٣). وقول الآخر :
٢٢٥ ـ سقوني النّسء ثم تكنّفوني |
|
عداة الله من كذب وزور (٤) |
أي : أذمّ عداة الله.
الثالث : أن يكون منصوبا بترك أي : تركهم صمّا بكما عميا.
والصّمم داء يمنع من السّماع ، وأصله من الصّلابة ، يقال : «قناة صمّاء» أي صلبة ، وقيل : أصله من الانسداد ، ومنه : صممت القارورة أي : سددتها. والبكم داء يمنع الكلام ، وقيل : هو عدم الفهم ، وقيل : الأبكم من ولد أخرس.
وقوله : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) جملة خبرية معطوفة على الجملة الخبرية قبلها ، وقيل : بل الأولى دعاء عليهم بالصّمم ، ولا حاجة إلى ذلك. وقال أبو البقاء : «وقيل : فهم لا يرجعون حال ، وهو خطأ ، لأن الفاء ترتّب ، والأحوال لا ترتيب فيها». و «رجع» يكون قاصرا ومتعديا باعتبارين ، وهذيل تقول : أرجعه غيره فإذا كان بمعنى «عاد» كان لازما ، وإذا كان بمعنى أعاد كان متعديا ، والآية الكريمة تحتمل التقديرين ، فإن جعلناه متعديا فالمفعول محذوف ، تقديره : لا يرجعون جوابا ، مثل قوله : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ)(٥) وزعم بعضهم أنه يضمّن معنى صار ، فيرفع الاسم وينصب الخبر ، وجعل منه قوله عليهالسلام : «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (٦) ، ومن منع من جريانه مجرى «صار» جعل المنصوب حالا.
قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) : في «أو» خمسة أقوال.
__________________
(١) البيت لحميد بن ثور. انظر ديوانه (١٠٥) ، العيني (١ / ٥٦٢) ، الأشموني (١ / ٢٢٢).
(٢) انظر البحر المحيط (١ / ٨٢).
(٣) سورة المسد ، آية (٤).
(٤) البيت لعروة بن الورد. انظر ديوانه (٩٠) ، الكتاب (١ / ٢٥٢) ، مجالس ثعلب (٢ / ٣٤٩).
(٥) سورة الطارق ، آية (٨).
(٦) أخرجه البخاري (٩ / ٦٤) ، ومسلم في القسامة باب (٩) ، رقم (٢٩) ، وأحمد (٤ / ٣٥١) ، (٥ / ٤٩).