لأنّ المشبّه جمع ، فلو لم يقدّر هذا المضاف وهو «أصحاب» لزم أن يشبّه الجمع بالمفرد وهو الذي استوقد» انتهى. ولا أدري ما الذي حمل هذا القائل على منع تشبيه الجمع بالمفرد في صفة جامعة بينهما ، وأيضا فإنّ المشبّه والمشبّه به إنما هو القصتان ، فلم يقع التشبيه إلا بين قصتين إحداهما مضافة إلى جمع والأخرى إلى مفرد.
قوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) هذه جملة معطوفة على قوله «ذهب الله». وأصل الترك : التخلية ، ويراد به التصيير ، فيتعدّى لاثنين على الصحيح ، كقول الشاعر :
٢٢٢ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به |
|
فقد تركتك ذا مال وذا نشب (١) |
فإن قلنا : هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير ، والمفعول الثاني «في ظلمات» و «لا يبصرون» حال ، وهي حال مؤكدة لأنّ من كان في ظلمة فهو لا يبصر ، وصاحب الحال : إمّا الضمير المنصوب أو المرفوع المستكنّ في الجارّ والمجرور. ولا يجوز أن يكون «في ظلمات» حالا ، و «لا يبصرون» هو المفعول الثاني لأن المفعول الثاني خبر في الأصل ، والخبر لا يؤتى به للتأكيد ، وأنت إذا جعلت «في ظلمات» حالا فهم منه عدم الإبصار ، فلم يفد قولك بعد ذلك لا «يبصرون» إلا التأكيد ، لكن التأكيد ليس من شأن الإخبار ، بل من شأن الأحوال لأنها فضلات. ويؤيّد ما ذكرت أن النّحويين لمّا أعربوا قول امرئ القيس :
٢٢٣ ـ إذا ما بكى من خلفها انصرفت له |
|
بشقّ وشقّ عندنا لم يحوّل (٢) |
أعربوا «شق» مبتدأ و «عندنا» خبره ، و «لم يحوّل» جملة حالية مؤكّدة ، قالوا : وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع تفصيل ، وأبوا أن يجعلوا «لم يحوّل» خبرا ، و «عندنا» صفة لشق مسوّغا للابتداء به ، قالوا : لأنه فهم معناه من قوله : «عندنا» لأنه إذا كان عنده علم منه أنه لم يحوّل ، وقد أعربه أبو البقاء كذلك ، وهو مرود بما ذكرت لك.
ويجوز إذا جعلنا «لا يبصرون» هو المفعول الثاني أن يتعلّق «في ظلمات» به أو ب «تركهم» ، التقدير : «وتركهم لا يبصرون في ظلمات». وإن كان «ترك» متعديا لواحد كان «في ظلمات» متعلقا بترك ، و «لا يبصرون» حال مؤكدة ويجوز أن يكون «في ظلمات» حالا من الضمير المنصوب في «تركهم» ، فيتعلّق بمحذوف و «لا يبصرون» حال أيضا : إمّا من الضمير المنصوب في «تركهم» فيكون له حالان ويجري فيه الخلاف المتقدم ، وإمّا من الضمير المرفوع المستكنّ في الجارّ والمجرور قبله فتكون حالين متداخلتين.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)(١٩)
قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) : الجمهور على رفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي :
__________________
(١) البيت للعباس بن مرداس. انظر ديوانه (٤٧) ، قصيدة رقم (٢) ، ص ٣١ ، المقتضب (٢ / ٣٥). انظر الكتاب (١ / ٣٧) ، المحتسب (١ / ٥١) ، أمالي ابن الشجري (١ / ١٦٥) ، الهمع (٢ / ٨٢) ، الدرر (٢ / ١٠٦) ، شرح المفصل لابن يعيش (٢ / ٤٢ ، ٨ / ٥٠) ، الخزانة (١ / ٣٣٩) ، الشذور (٣٦٩) ، المغني (١ / ٣١٥) ، والشاهد فيه : حذف حرف الجر فانتصب الاسم بالفعل. وقد نسب البيت إلى خفاف بن ندبة أيضا ، وهو في ملحقات ديوانه ص ١٢٦ ، ونصه فيه :
أمرتك الرشد ... الخ
(٢) البيت من معلقته المشهورة. انظر ديوانه (١٢) برواية : انحرفت له ، شرح القصائد العشر (٧٤) ، والشنقيطي (٦٠) ، البحر (١ / ٨١) ، والشاهد (وشق عندنا يحول) جاز الابتداء بالنكرة هنا لأنها في موضع التفصيل.