أحدها : أن تكون تأكيدا لاسم «إنّ» لأنّ الضمير المنفصل المرفوع يجوز أن يؤكّد به جميع ضروب الضمير المتصل. وأن تكون فصلا.
وأن تكون مبتدأ و «المفسدون» خبره ، وهما خبر ل «إنّ» ، وعلى القولين الأوّلين يكون «المفسدون» وحده خبرا لإنّ. وجيء في هذه الجملة بضروب من التأكيد ، منها : الاستفتاح والتنبيه والتأكيد بإنّ وبالإتيان بالتأكيد أو الفصل بالضمير وبالتعريف في الخبر مبالغة في الردّ عليهم فيما ادّعوه من قولهم : إنما نحن مصلحون ، لأنهم أخرجوا الجواب جملة اسمية مؤكّدة بإنما ، ليدلّوا بذلك على ثبوت الوصف لهم فردّ الله عليهم بأبلغ وآكد ممّا ادّعوه.
قوله تعالى : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها و «لكن» معناها الاستدراك ، وهو معنى لا يفارقها ، وتكون عاطفة في المفردات ، ولا تكون إلا بين ضدّين أو نقيضين ، وفي الخلافين خلاف ، نحو : «ما قام زيد لكن خرج بكر» ، واستدلّ بعضهم على ذلك بقول طرفة :
١٩١ ـ ولست بحلّال التّلاع لبيته |
|
ولكن متى يسترفد القوم أرفد (١) |
فقوله : «متى يسترفد القوم أرفد» ليس ضدا ولا نقيضا لما قبله ، ولكنه خلافه. قال بعضهم : وهذا لا دليل فيه على المدّعى ، لأنّ قوله : «لست بحلّال التّلاع لبيته» كناية عن نفي البخل أي : لا أحلّ التلاع لأجل البخل ، وقوله : «متى يسترفد القوم أرفد» كناية عن الكرم ، فكأنه قال : لست بخيلا ولكن كريما ، فهي هنا واقعة بين ضدّين. ولا تعمل مخفّفة خلافا (٢) ليونس ، ولها أحكام كثيرة.
ومعنى الاستدراك في هذه الآية يحتاج إلى فضل تأمّل ونظر ، وذلك أنهم لمّا نهوا عن اتخاذ مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك ، وأخبر تعالى بأنهم هم المفسدون ، كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر تعالى وأنهم لا يدّعون أنهم مصلحون ، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بذلك ، ومثله قولك : «زيد جاهل ولكن لا يعلم» ، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل ، وصار الجهل وصفا فائما به كان ينبغي أن يعلم بهذا الوصف من نفسه ، لأن الإنسان ينبغي له أن يعلم ما اشتملت عليه نفسه من الصفات فاستدركت عليه أن هذا الوصف القائم به لا يعلمه مبالغة في جهله.
ومفعول «يشعرون» محذوف : إمّا حذف اختصار ، أي : لا يشعرون بأنهم مفسدون ، وإمّا حذف اقتصار ، وهو الأحسن ، أي ليس لهم شعور البتة.
قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) : الكلام عليها كالكلام على نظيرتها قبلها. وآمنوا فعل وفاعل والجملة في محلّ رفع لقيامها مقام الفاعل على ما تقدّم في «وإذا قيل لهم : لا تفسدوا» والأقوال المتقدمة هناك تعود هنا فلا حاجة لذكرها.
والكاف في قوله (كَما آمَنَ النَّاسُ) في محلّ نصب. وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتا لمصدر محذوف ، والتقدير : آمنوا إيمانا كإيمان الناس ، وكذلك يقولون في : «سر عليه حثيثا» ، أي سيرا حثيثا ، وهذا ليس من مذهب سيبويه ، إنما مذهبه في هذا ونحوه أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم.
__________________
(١) البيت من معلقته المشهورة. انظر ديوانه (١ / ٤٤٢) ، سيبويه (١ / ٤٤٢) ، الخزانة (٣ / ٦٥٠).
(٢) يونس بن حبيب الضبيّ الولاء البصريّ أبو عبد الرحمن من أصحاب أبي عمرو بن العلاء ، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة. أخبار النحويين البصريين (٣٢) ، بغية الوعاة (٢ / ٣٦٥).