وإنما أحوج سيبويه إلى ذلك أنّ حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة ، ليس هذا منها ، وتلك المواضع أن تكون الصفة خاصة بالموصوف ، نحو : مررت بكاتب ، أو واقعة خبرا نحو : زيد قائم ، أو حالا نحو : جاء زيد راكبا ، أو صفة لظرف نحو : جلست قريبا منك ، أو مستعملة استعمال الأسماء ، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه ، نحو : الأبطح والأبرق ، وما عدا هذه المواضع لا يجوز فيها حذف الموصوف ، ألا ترى أن سيبويه منع : «ألا ماء ولو باردا» ، وإن تقدّم ما يدل على الموصوف ، وأجاز : ألا ماء ولو باردا لأنه نصب على الحال.
و «ما» مصدرية في محلّ جر بالكاف ، و «آمن الناس» صلتها. واعلم أن «ما» المصدرية توصل بالماضي أو المضارع المتصرّف ، وقد شذّ وصلها بغير المتصرّف في قوله :
١٩٢ ـ ............... |
|
بما لستما أهل الخيانة والغدر (١) |
وهل توصل بالجمل الاسمية؟ خلاف ، واستدل على جوازه ، بقوله :
١٩٣ ـ واصل خليلك ما التّواصل ممكن |
|
فلأنت أو هو عن قليل ذاهب |
وقول الآخر :
١٩٤ ـ أحلامكم لسقام الجهل شافية |
|
كما دماؤكم تشفي من الكلب (٢) |
وقول الآخر :
١٩٥ ـ فإنّ الحمر من شرّ المطايا |
|
كما الحبطات شرّ بني تميم (٣) |
إلا أنّ ذلك يكثر فيها إذا افهمت الزمان كقوله : «واصل خليلك. البيت. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكون «ما» كافة للكاف عن العمل ، مثلها في قولك : ربما قام زيد. ولا ضرورة تدعو إلى هذا ، لأنّ جعلها مصدرية مبق للكاف على ما عهد لها من العمل بخلاف جعلها كافة. والألف واللام في «الناس» تحتمل أن تكون جنسية أو عهدية. والهمزة في «أنؤمن» للإنكار أو الاستهزاء ، ومحلّ «أنؤمن» النصب ب «قالوا».
وقوله : (كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) : القول في الكاف و «ما» كالقول فيهما فيما تقدّم ، والألف في السفهاء تحتمل أن تكون للجنس أو للعهد ، وأبعد من جعلها للغلبة كالعيّوق (٤) ، لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم ، بحيث إذا قيل السفهاء فهم منهم ناس مخصوصون ، كما يفهم من العيّوق كوكب مخصوص.
والسّفه : الخفّة ، تقول : «ثوب سفيه» أي خفيف النّسج. وقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) كقوله فيما تقدّم : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(٥) فلا حاجة إلى إعادته. ومعنى الاستدراك كمعناه فيما تقدّم ، إلا أنه قال هناك : «لا يشعرون» ، لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد ، وهو ممّا يدرك بأدنى تأمّل لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كبير ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر وهي الحواسّ مبالغة في تجهيلهم وهو أن الشعور الذي قد ثبت للبهائم منفيّ عنهم ، والمثبت هنا هو السّفه والمصدّر به هو الأمر بالإيمان وذلك ممّا يحتاج إلى
__________________
(١) البيت من شواهد البحر (١ / ٦٧).
(٢) البيت للكميت بن زيد. انظر ديوانه (١ / ٨١) ، همع الهوامع (١ / ٨١) ، الدرر (١ / ٥٤).
(٣) البيت لزياد الأعجم. انظر أمالي ابن الشجري (٢ / ٢٣٥) ، الأشموني (٢ / ٢٣١).
(٤) نجم كبير قرب الثريا.
(٥) سورة البقرة ، آية (١٢).