وقوله : (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) : «إلا» في الأصل حرف استثناء ، وأنفسهم مفعول به ، وهذا الاستثناء مفرغ ، وهو عبارة عما افتقر فيه ما قبل «إلا» لما بعدها ، ألا ترى أن «يخادعون» يفتقر إلى مفعول ، ومثله : «ما قام إلا زيد» فقام يفتقر إلى فاعل ، والتامّ بخلافه ، أي : ما لم يفتقر فيه ما قبل «إلّا» لما بعدها ، نحو : قام القوم إلا زيدا ، وضربت القوم إلا بكرا ، فقام قد أخذ فاعله ، وضربت أخذ مفعوله ، وشرط الاستثناء المفرغ أن يكون بعد نفي أو شبهه كالاستفهام والنفي. وأمّا قولهم : «قرأت إلا يوم كذا» فالمعنى على نفي مؤول تقديره : ما تركت القراءة إلا يوم كذا ، ومثله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ)(١) ، (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(٢) ، للاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصلة في غضون الكتاب إن شاء الله تعالى.
وقرئ : «وما يخدعون» مبنيا للمفعول ، وتخريجها على أنّ الأصل وما يخدعون إلا عن أنفسهم ، فلمّا حذف الحرف انتصب على حدّ :
١٧٨ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا |
|
............... (٣) |
و «يخدّعون» (٤) من خدّع مشددا ، و «يخدّعون» بفتح الياء والتشديد والأصل : يختدعون فأدغم.
(وَما يَشْعُرُونَ) هذه الجملة الفعلية ، يحتمل ألّا يكون لها محلّ من الإعراب ، لأنها استئناف ، وأن يكون لها محلّ وهو النصب على الحال من فاعل (يَخْدَعُونَ) ، والمعنى : وما يرجع وبال خداعهم إلا على أنفسهم غير شاعرين بذلك. ومفعول (يَشْعُرُونَ) محذوف للعلم به ، تقديره : وما يشعرون أنّ وبال خداعهم راجع على أنفسهم ، أو اطّلاع الله عليهم ، والأحسن ألّا يقدّر له مفعول لأنّ الغرض نفي الشعور عنهم البتة من غير نظر إلى متعلّقه ، والأول يسمّى حذف الاختصار ، ومعناه حذف الشيء لدليل ، والثاني يسمّى حذف الاقتصار ، وهو حذف الشيء لا لدليل.
والشعور : إدراك الشيء من وجه يدقّ ويخفى ، مشتقّ من الشعر لدقّته ، وقيل : هو الإدراك بالحاسّة مشتقّ من الشّعار ، وهو ثوب يلي الجسد ، ومنه مشاعر الإنسان أي حواسّه الخمس التي يشعر بها.
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(١١)
قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : الآية. الجارّ والمجرور خبر مقدم واجب التقديم لما تقدّم ذكره في قوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)(٥). والمشهور تحريك الراء من «مرض» ، وروى الأصمعي (٦) عن أبي عمرو سكونها ، وهما لغتان في مصدر مرض يمرض. والمرض : الفتور ، وقيل : الفساد ، ويطلق على الظلمة ، وأنشدوا :
__________________
(١) سورة التوبة ، آية (٣٢).
(٢) سورة البقرة ، آية (٤٥).
(٣) وهو لجرير وقد تقدم.
(٤) انظر البحر المحيط (١ / ٥٧).
(٥) سورة البقرة ، آية (٧).
(٦) عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن عليّ بن أصمع الأصمعي البصري اللغوي أحد أئمة اللغة والغريب والأخبار والملح والنوادر ، توفي سنة ست عشرة ومائتين عن ثمان وثمانين سنة. البغية (٢ / ١١٢ ـ ١١٣).