قيل : لم أتى بخبر (ما) اسم فاعل غير مقيد بزمان ولم يؤت بعدها بجملة فعلية حتى يطابق قولهم : (آمَنَّا) فيقال : وما آمنوا؟ فالجواب : أنه عدل عن ذلك ليفيد أن الإيمان منتف عنهم في جميع الأوقات ، فلو أتى به مطابقا لقولهم : (آمَنَّا) فقال : «وما آمنوا لكان يكون نفيا للإيمان في الزمن الماضي فقط ، والمراد النفي مطلقا أي : أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت من الأوقات».
(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٩)
قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ) : هذه الجملة الفعلية يحتمل أن تكون مستأنفة جوابا لسؤال مقدر وهو : ما بالهم قالوا آمنا ، وما هم بمؤمنين؟ فقيل : يخادعون الله ويحتمل أن تكون بدلا من الجملة الواقعة صلة ل «من» وهي «يقول» ويكون هذا من بدل الاشتمال لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع فهو نظير قوله :
١٧٣ ـ إنّ عليّ الله أن تبايعا |
|
تؤخذ كرها أو تجيء طائعا (١) |
وقول الآخر :
١٧٤ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا |
|
تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (٢) |
ف «تؤخذ» بدل اشتمال من «تبايع» وكذا «تلمم» بدل من تأتنا وعلى هذين القولين فلا محل لهذه الجملة من الإعراب.
والجمل التي لا محل لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك ـ وإن توهم بعضهم ذلك ـ وهي : المبتدأ والصلة والمعترضة والمفسرة ، وسيأتي تفصيلها في مواضعها ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالا من الضمير المستكن في «يقول» تقديره : ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين.
وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الضمير المستكن في (بِمُؤْمِنِينَ) والعامل فيها اسم الفاعل. وقد رد عليهم بعضهم (٣) بما معناه : أن هذه الآية الكريمة نظير : ما زيد أقبل ضاحكا قال : «وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان ؛ أحدهما : نفي القيد وحده وإثبات أصل الفعل ، وهذا هو الأكثر ، والمعنى أن الإقبال ثابت والضحك منتف ، وهذا المعنى لا يتصور إرادته في الآية ، أعني نفي الخداع وثبوت الإيمان. الطريق الثاني : أن ينتفي القيد فينتفي العامل فيه ، فكأنه قيل في المثال السابق : لم يقبل ولم يضحك ، وهذا المعنى أيضا غير مراد بالآية الكريمة قطعا أعني نفي الإيمان والخداع معا ، بل المعنى على نفي الإيمان وثبوت الخداع فقد جعلها حالا من الضمير في (بِمُؤْمِنِينَ) والعجب من أبي البقاء كيف استشعر هذا الإشكال ، فمنع من جعل هذه الجملة في محل الجر صفة لمؤمنين؟ قال : «لأن ذلك يوجب نفي خداعهم والمعنى على إثبات الخداع» ثم جعلها حالا من ضمير «مؤمنين» ولا فرق بين الحال والصفة في هذا.
والخداع أصله الإخفاء ، ومنه الأخداعان : عرقان مستبطنان في العنق ، ومنه مخدع البيت فمعنى خادع أي :
__________________
(١) البيت من شواهد الكتاب (١ / ١٥٦). الأشموني (٣ / ١٣١).
(٢) البيت لعبيد الله بن الحر الجعفي. انظر الكتاب (٣ / ٨٦) ، شرح المفصل لابن يعيش (٧ / ٥٣) ، الدرر (٢ / ١٦٦) ، الخزانة (٣ / ٦٦٠).
(٣) انظر البحر المحيط (١ / ٥٦).