وأحسن من هذا أن يقال : إن الخبر أفاد التبعيض المقصود ، لأن الناس كلهم لم يقولوا ذلك. وهم غير مؤمنين فصار التقدير : وبعض الناس يقول كيت وكيت.
واعلم أن «من» وأخواتها لها لفظ ومعنى ، فلفظها مفرد مذكر فإن أريد بها غير ذلك فلك أن تراعي لفظها مرة ومعناها أخرى ، فتقول : «جاء من قام وقعدوا» والآية الكريمة كذلك روعي اللفظ أولا فقيل : (مَنْ يَقُولُ) والمعنى ثانيا في (آمَنَّا). وقال ابن عطية : «حسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة ، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحيد لو قلت : ومن الناس من يقومون ويتكلم لم يجز» وفي عبارة القاضي ابن عطية نظر ، وذلك لأنه منع من مراعاة «اللفظ بعد مراعاة» المعنى ، وذلك جائز إلا أن مراعاة اللفظ أولا أولى ، ومما يرد عليه قول الشاعر :
١٧٠ ـ لست ممّن يكعّ أو يستكينو |
|
ن إذا كافحته خيل الأعادي (١) |
وقال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ)(٢) إلى أن قال : (خالِدِينَ) فراعى المعنى ثم قال : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) فراعى اللفظ بعد مراعاة المعنى ، وكذا راعى المعنى في قوله : «أو يستكينون» ثم راعى اللفظ في «إذا كافحته». وهذا الحمل جار فيها في جميع أحوالها ، أعني من كونها موصولة وشرطية واستفهامية ، أما إذا كانت موصوفة فقال الشيخ (٣) : «ليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى» يعني تقول : مررت بمن محسنون لك.
والآخر صفة لليوم وهو مقابل الأول ، ومعنى اليوم الآخر أي عن الأوقات المحدودة.
(وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ما نافية ، ويحتمل أن تكون هي الحجازية ، فترفع الاسم وتنصب الخبر ، فيكون (هُمْ) اسمها وبمؤمنين خبرها ، والباء زائدة تأكيدا ، وأن تكون التميمية فلا تعمل شيئا فيكون (هُمْ) مبتدأ و (بِمُؤْمِنِينَ) الخبر والباء زائدة أيضا ، وزعم الفارسي وتبعه الزمخشري أن الباء لا تزاد في خبر «ما» إلا إذا كانت عاملة ، وهذا مردود بقول الفرزدق وهو تميمي :
١٧١ ـ لعمرك ما معن بتارك حقّه |
|
ولا منسئ معن ولا متيسّر (٤) |
إلا أن المختار في «ما» أن تكون حجازية ، لأنه لما سقطت الباء صرح بالنصب ، قال الله تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ)(٥) ، (ما هذا بَشَراً)(٦) وأكثر لغة الحجاز زيادة الباء في خبرها حتى زعم بعضهم أنه لم يحفظ النصب في غير القرآن إلا في قول الشاعر :
١٧٢ ـ وأنا النّذير بحرّة مسودّة |
|
تصل الجيوش إليكم أقوادها |
أبناؤها متكنّفون أباهم |
|
حنقوا الصّدور وما هم أولادها (٧) |
وأتى بالضمير في قوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) جمعا اعتبارا بمعنى «من» كما تقدم في قوله : (آمَنَّا) فإن
__________________
(١) البيت من شواهد البحر (١ / ٥٤).
(٢) سورة التغابن ، آية (٩).
(٣) أبو حيان رحمهالله.
(٤) البيت في ديوانه (٢٧٠) ، الكتاب (١ / ٦٣) ، أمالي القالي (٣ / ٨٢) ، الخزانة (١ / ١٨١) ، الهمع (١ / ١٢٨) ، الدرر (١ / ١٠٢).
(٥) سورة المجادلة ، آية (٢).
(٦) سورة يوسف ، آية (٣١).
(٧) البيتان لعدي بن الرقاع. انظر شرح ابن عقيل (١ / ٣٠٢) ، البحر المحيط (١ / ٥٥) ، روح المعاني (١٢ / ٢٣٢).