كما يفترى أولئك الخرّاصون. بل الرواية نفسها تثبت صراحة أن في الصحابة من كان يقرؤها وسمعها الرسول منه.
ثم إن دستور جمع القرآن ـ وقد مرّ آنفا ـ يؤيد أنهم لم يكتبوا في المصحف إلا ما تظاهر الحفظ والكتابة والإجماع على قرآنيته. ومنه هذه الآيات التى يدور عليها الكلام هنا من غير ما شك ولا يفوتنّك في هذا المقام أمران : (أحدهما) أن كلمة «أسقطتهنّ» فى بعض روايات هذا الحديث ، معناها أسقطتهن نسيانا ، كما تدلّ على ذلك كلمة «أنسيتهنّ» فى الرواية الأخرى ... ومحال أن يراد بها الإسقاط عمدا ، لأن الرسول صلىاللهعليهوسلم لا ينبغى له ولا يعقل منه أن يبدّل شيئا في القرآن بزيادة أو نقص من تلقاء نفسه ، وإلّا لكان خائنا أعظم الخيانة. والخائن لا يمكن أن يكون رسولا.
هذا هو حكم العقل المجرّد من الهوى ، وهو أيضا حكم النقل في كتاب الله ؛ إذ يقول سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، وإذ يقول جلّ ذكره : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ).
(الأمر الثانى) أن روايات هذا الخبر لا تفيد أن هذه الآيات التى سمعها الرسول من عبّاد بن بشّار قد امّحت من ذهنه الشريف جملة. غاية ما تفيده أنها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة عبّاد. وغيبة الشّيء عن الذهن أو غفلة الذهن عن الشيء ، غير محوه منه ، بدليل أن الحافظ منا لأىّ نصّ من النصوص يغيب عنه هذا النصّ إذا اشتغل ذهنه بغيره ، وهو يوقن في ذلك الوقت بأنه مخزون في حافظته بحيث إذا دعا إليه داع استعرضه واستحضره ثم قرأه. أما النسيان التامّ المرادف لامّحاء الشيء من الحافظة ، فإن الدليل قام على استحالته على النبى صلىاللهعليهوسلم فيما يخلّ بوظيفة الرسالة والتبليغ. وإذا عرض له نسيان فإنه سحابة صيف لا تجىء إلا لتزول. ولا ريب أن نسيان الرسول هنا كان بعد