ولا يشكلن عليك في هذا المقام ما جاء في صحيح البخارى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال : «مات النبىّ صلىاللهعليهوسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد. قال : «ونحن ورثناه» وأبو زيد هذا اسمه قيس بن السكن كما رواه أبو داود بإسناد على شرط الشيخين. وإنما قلنا لا يشكلن عليك هذا الحديث ، لأن الحصر الذى تلمحه فيه حصر نسبى ، وليس حصرا حقيقيّا حتى ينفى أن يكون غير هؤلاء الأربعة قد جمعه على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
والدليل على أن هذا الحصر إضافى لا حقيقى هو ما رواه البخارى عن أنس نفسه أيضا وقد سأله قتادة عمن جمع القرآن على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «أربعة كلهم من الأنصار : أبىّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد» ا ه فأنت ترى أن أنسا في هذه الرواية ذكر من الأربعة أبىّ بن كعب بدلا من أبى الدرداء فى الرواية السابقة. وهو صادق في كلتا الروايتين لأنه ليس بمعقول أن يكذّب نفسه ، فتعين أنه يريد من الحصر الذى أورده الحصر الإضافى ، بأن يقال إن أنسا رضى الله عنه تعلق غرضه في وقت ما بأن يذكر الثلاثة ، ويذكر معهم أبىّ بن كعب دون أبى الدرداء ، حاصرا الجمع فيهم ، ثم علق غرضه في وقت آخر بأن يذكر الثلاثة ويذكر معهم أبا الدرداء دون أبىّ بن كعب.
وهذا التوجيه وإن كان بعيدا ، إلا أنه يتعين المصير إليه جمعا بين هاتين الروايتين ، وبينهما وبين روايات أخرى ذكرت غير هؤلاء. ومن هنا قال الماوردى : لا يلزم من قول أنس رضى الله عنه «لم يجمعه غيرهم» أن يكون الواقع كذلك في نفس الأمر ، لأنه لا يمكن الإحاطة بذلك ، مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد ، ولا يتم له ذلك إلا إذا كان قد لقى كل واحد منهم ، وأخبر عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبى صلىاللهعليهوسلم. وهذا في غاية البعد في العادة. وكيف يكون الواقع ما ذكر ، وقد جاء فى صحيح البخارى أيضا من طريق حفص بن عمر أن النبى صلىاللهعليهوسلم يقول : «خذوا