فوقع ملكها «كرزوس» أسيرا في يد كورش ، وكان قد تآمر ضدّه مع سائر الدول للقضاء على امبراطوريّة فارس ، ولكنّه فشل ووقعت بلاده طعمة رخيصة للملك الفارسي ، ومن ثمّ حاول إحراقه بالنار ، لكنّه سامحه وعفى عنه ، حسب دأبه مع سائر أمراء البلاد الذين بغوا عليه وأصفح عنهم.
وبذلك نرى الآيات لعلّها تتصادق مع ما سجّله التاريخ بشأن كورش. فقد قويت شوكته بعد أن وحّد فارس ماديا بعد الاستيلاء على «إكباتان» (همدان ـ اليوم). فذهب متوجّها نحو الغرب لإخضاع مناوئيه هناك (ليديا). الأمر الذي يتصادق مع قوله تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) (بتوحيد بلاد فارس وماديا) (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (أي علما بطرق الفتح والظفر على الخصوم) (١) (فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) (هي الضفة الغربيّة من آسيا الصغرى ، حيث بلاد ليديا ، تركيا الحاليّة) (وَجَدَها) (أي الشمس) (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) حيث بحر إيجة ويسمّى بحر المغرب ، وبحر مرمرة وعلى امتدادهما البحر الأسود ، وكلّها تضرب بالسواد ، كأنّه الوحل. والحمأة : الطين الأسود. وكانت الشمس تغرب على آفاق تتاخم تلك البحار الضاربة لونها إلى السواد.
وهكذا سار كورش (ذو القرنين) بجيوشه نحو مغرب الشمس (غربيّ بلاد فارس ـ آسيا الصغرى) حتّى أوقفه البحر ، ولم يكن من شبر أمامه من يابس ـ في مسيرته تلك ـ! فما ذا بعد قرص الشمس المحتقن وقد تخضّب بحمرة كأنّه ينزف ما فيه من طاقة ... ما ذا بعد قرص الشمس وقد اصفرّ واحتضر وتضاءل عند الافق ، ثمّ هوى وسقط غارقا في العين الحمئة ... (٢) في خليج «إزمير» ، (٣) بين الماء والطين الأسود العكر اللّذين يسكبهما نهر «جيديس»؟
لقد رأى كورش (ذو القرنين) في هذا المشهد ما يشدّه إلى الخالق الأعظم ، مالك
__________________
(١) عن قتادة والضحّاك : علما يتسبّب به إلى تحقيق إرادته وبلوغ م آربه. وعن الجبائي : كلّ شيء يستعين به الملوك على فتح البلاد والظفر على الأعداء. مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٤٩٠.
(٢) والعين ـ هنا ـ : لجّة الماء وعبابه المتموّج ، فيتراءى للناظر على ساحل البحر كأنّ الشمس تغرب في عبابه ، كما أنّ الناظر إليها وهي تغرب في البرّ ، كأنّها تغرب في أرض ملساء.
(٣) هي «سميرنا» (enrymS) القديمة ، مرفأ عظيم في تركيا على بحر إيجة.