روى محمد بن إسحاق بإسناده إلى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس ، قال : إنّ النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط ، أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة ، وقالوا لهما : سلاهم عن محمّد ، وصفا لهم صفته ، وخبّراهم بقوله ، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتّى قدما المدينة فسألا أحبار اليهود عن النبي صلىاللهعليهوآله وقالا لهم ما قالت قريش.
فقال لهما أحبار اليهود : اسألوه عن ثلاث ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل ، فارأوا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ، ما كان أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟
وفي رواية اخرى : فإن أخبركم عن الثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبيّ.
فانصرفا إلى مكّة ، فقالا : يا معاشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّد ، وقصّا عليهم القصّة. فجاءوا إلى النبي صلىاللهعليهوآله فسألوه. فاستمهلهم النبي صلىاللهعليهوآله حتّى يأتيه الوحي ، فمكث اسبوعين حتّى نزلت الآيات بشأن أصحاب الكهف وذي القرنين وبشأن الروح : إنّه من أمر ربّي ولم يبيّن. (١)
وفي هذا الوصف الذي جاء في رواية ابن اسحاق ، دلالة واضحة على أنّ حديث الفتية حديث قديم يرجع عهده إلى الدهر الأوّل. وربّما يعني ذلك : العهد القديم السابق على عهد موسى وبني إسرائيل. فقد كان حديثا شائعا يتداوله أبناء الأديان القديمة وتوارثها المتأخّرون ومنهم اليهود. ولعلّه كان من شعارات أصحاب الأديان ، هي معرفة هكذا قصص دينيّة فيها اضطهاد وفيها الصبر والأناة والمقاومة تجاه الإلحاد ، وفي النهاية : النصر والظفر ... فهو حديث غلبة الحقّ على الباطل ، وظهور السلام على العسف والطغيان في أيّ زمان. (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ). (٢) جاءت الآية حديثا عن مواضع الأنبياء الظافرة.
إذن فقد كان حديث الفتية رمزا قديما لانتصار التوحيد على الشرك كلّه ، وشعارا
__________________
(١) مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٤٥١ ـ ٤٥٢.
(٢) الأنبياء ٢١ : ١٨.