الشريعة العادلة الرادعة.
إنّ ابني آدم هذين ـ قبل كلّ شيء ـ هما في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيّبة. فهما في موقف طاعة بين يدي الله. موقف تقديم قربان ، يتقرّبان به إلى الله : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) .. (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ). والفعل مبنيّ للمجهول ، ليشير بناؤه هكذا إلى أنّ أمر القبول أو عدمه ، موكول إلى قوّة غيبيّة ، وإلى كيفيّة غيبيّة ... إيحاء بأنّ الذي قبل قربانه لا جريرة له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله ، فالأمر لم يكن له يد فيه ، وإنّما تولّته قوّة غيبيّة بكيفيّة غيبيّته ، تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته ... فما هناك مبرّر ليحنق الأخ على أخيه ، وليجيش خاطر القتل في نفسه.
(قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) وهكذا يبدو هذا القول ـ بهذا التأكيد المنبئ عن الإصرار ـ نابيا مثيرا للاستنكار ، لأنّه ينبعث من غير موجب ، اللهمّ إلّا ذلك الشعور الخبيث المنكر ، شعور الحسد الأعمى ، الذي لا يعمر نفسا طيّبة.
والسياق يمضي ليزيد هذا الاعتداء نكارة وبشاعة بتصوير استجابة النموذج الآخر ، ووداعته وطيبة قلبه : (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). هكذا في براءة تردّ الأمر إلى وضعه وأصله ، وفي إيمان يدرك أسباب القبول ، وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتّقي الله ، وهداية له إلى الطريق الذي يؤدّي إلى القبول ، وتعريض لطيف به لا يصرّح بما يخدشه أو يستثيره.
ثمّ يمضي الأخ المؤمن التقيّ الوديع المسالم ليكسر من شره الشرّ الهائج في نفس أخيه الشرير : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).
وهكذا يرتسم نموذج من الوداعة والسلام والتقوى ، في أشدّ المواقف استجاشة للضمير الإنساني وحماسة للمعتدى عليه ضدّ المعتدي ، وإعجابا بهدوئه واطمئنانه أمام نذر الاعتداء ، وتقوى قلبه وخوفه من ربّ العالمين ... (١)
__________________
(١) ملتقط من صفحات ٧٠٤ ـ ٧٠٧ في ظلال القرآن ، المجلّد الثاني.