الخيال ، بعد وفور الأحداث والتجارب التي مرّت على حياة الإنسان ، وقد كلّفته أثمانا باهظة إن رابحة أو خاسرة ، هي تصلح لأن تقع موضع عبرته في مستقبل الزمان ، نظرا لوحدة متطلّبات الحياة في غابر الأزمان وحاضرها والآتي.
والخلاصة : أنّ القصّة في القرآن هي تجربة واقعيّة قاسها الإنسان في حياته الغابرة ، ولتكون عبرة في مستمرّ حياته ، وليست مجرد فرض خيال :
أوّلا ـ لأنّه في غنى عن اللجوء إلى مفروضات خياليّة أو مشهورات هي مقبولات عامّيّة ، بعد وفرة التجارب ذوات العبر في سالف حياة الإنسان.
ثانيا ـ لأنّ البناء على أساس الفرض والخيال سرعان ما ينهار إذا ما كسحته واقعيّات الحياة ولا سيّما بعد فضح الحال.
* * *
هذا ولكن هناك من يرى من قصص القرآن ـ كلّها أو جلّها ـ هي مشهورات عامّيّة استندها القرآن ، لا اعترافا بها ، بل معبرا للوصول إلى غايته في الهداية والإرشاد ، على طريقة الخطابة في البيان. وبعضهم أجاز كونها تمثيلات مجرّدة تقريبا للمطالب إلى الأذهان ... ولعلّ هذا إفراط بشأن القرآن!
يقول محمد أحمد خلف الله : القرآن يجري في فنّه البياني على أساس ما كانت تعتقد العرب وتتخيّل ، لا على ما هو الحقيقة العقليّة ، ولا على ما هو الواقع العملي. فهو حينما يتحدّث عن الجنّ وعن عقيدة المشركين فيهم وأنّهم يستمعون إلى السماء ليعرفوا أخبارها ثمّ يقومون بعد ذلك بإلقاء هذه الأخبار على الكهنة ، وكان الكهنة يدّعون الاطلاع على الغيب ومعرفة الأسرار في كلّ ذلك يجرى على هذا المذهب.
جاء في الرازي عند تفسيره لقوله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ)(١) ما يلي : «وأمّا تشبيه هذا الطلع برءوس الشياطين ففيه سؤال ، لأنّه قيل إنّا ما رأينا رءوس الشياطين ، فكيف يمكن تشبيه شيء بها؟ وأجابوا عنه بوجوه ،
__________________
(١) الصافّات ٣٧ : ٦٤ ـ ٦٥.