وهذا قد يدلّنا على أنّ هذا التكرار للقصّة في السور المكّيّة إنّما كان لمعالجة روحيّة تتعلّق بحوادث مختلفة واجهت النبي والمسلمين ومشاكلهم مع المشركين ، ومن أهداف هذه المعالجة توسعة نطاق المفهوم العامّ الذي تعطيه القصّة في العلاقة بين النبي والجبّارين من قومه ، وأنّ هذه العلاقة لا تختلف فيها حادثة عن حادثة أو موقف عن موقف ، والتاريخ يكرّر نفسه.
وهكذا يختلف سرد قصص نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء ، باختلاف الأحوال التي كان يعالجها المسلمون في طول الدعوة ، فأطوارا بمكّة وأطوارا بالمدينة حسب تغيّر الأوضاع.
ومن الناحية الأدبية أيضا نرى القرآن عند ما يكرّر الحديث عن حادث أو عن ظاهرة طبيعيّة ، فإنّه لا يكرّرها إلّا وفي هذا التكرار نكتة وظرافة لاحظها حسب المناسبة. الأمر الذي يزيد في بلاغة البيان القرآني وربّما إلى حدّ الإعجاز. إذ يعني ذلك : أنّ بإمكانه سرد قصّة واحدة بأنحاء وأشكال ، كلّ مرّة يأتي بالعجيب من الكلام ، بحيث لا يملّ السامع من الإصغاء ، حتّى ولو سمعها في عدّة مواطن ، فإنّه لا يمجّها لمرّة اخرى واخرى ، لما في كلّ مرّة من طراوة وإبداء شيء جديد ، وفي كلّ جديد لذّة! وقد عدّ ذلك وجها من وجوه إعجاز القرآن في بديع بيانه.
ولتاج القرّاء أبي القاسم محمود بن حمزة الكرماني تصنيف لطيف بهذا الشأن ، ذكر فيه الفوارق البديعيّة في مكرّرات الآيات ، وأبدع في ذلك. اقتطفنا منه قبسات عند الكلام عن الإعجاز البياني للقرآن. (١)
الحرّية الفنّية في قصص القرآن
هناك ظواهر كثيرة من ظاهرات الحرّية الفنّية (الأدبيّة) توجد في القرآن عند سرد أحداث التاريخ ممّا جعلته ممتازا عن مثل التوراة التي هي أشبه بكتاب تاريخ منه بكتاب
__________________
(١) نكت وظرف فيما تكرّر من الآيات. التمهيد ، ج ٥.