لعقيدة ارتآها أو دفعا لما سلكه خصماؤه. وفي غضون هذا التدافع والتخاصم كانت معالم الشريعة هي التي وقعت عرضة الأهواء ومتضارب الآراء ، وأصبح قسم كبير من بيّنات الآيات والسنن متشابهات ، وقد أحاطت بها هالات من الإبهام والإجمال ، فصار ما كان محكما بالأمس متشابها وما كان بيّنا ، مستطرقا طرق الظلام. هذا هو الحدث الجليل الذي عاد بسيّئاته إلى حوزة الشريعة الغرّاء.
وهذا في أكثرية النصوص التي تعرّضت لصفاته تعالى الجلال والجمال وشئون الخليقة والتدبير وما شابه.
أمّا المتشابه الأصل فهو أقلّ القليل من آيات تعرّضت لمعان مستجدّة على العرب هي ذوات مفاهيم رفيعة ومتوسّعة سعة الآفاق ، كانت القوالب اللفظية ـ الموضوعة عند العرب ـ تضيق عن حملها والإيفاد بها. ومن ثمّ جاءت في قوالب الاستعارة والتشبيه القاصرة ـ بطبيعة الحال ـ عن إفادة كمال المراد. وهذا من قصور يعود إلى القابل ولا يمسّ شأن الفاعل ، كما لا يخفى. وقد قدّمنا الكلام عن تفاصيله.
أمّا ولم أودعت هذه اللّمة من عديد آيات رفيعة المنال ضمن نصوص القرآن الكريم وهي معروضة على العامّة لتكون بيانا للناس كافّة؟ (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ). (١)
فيعود السبب إلى كونها ودائع أودعت لدى هذه الامّة لتكون رصيدا لها وذخرا وفيرا في مسيرة الشريعة الأبدية ، كلّما تقدّم الزمان ظهرت منه آيات بيّنات لتنير الدرب على مدى الأيّام.
إنّ لهذه الآيات إشعاعات تشعّ بأطيافها متناسبة مع الظروف والشرائط المؤاتية في كلّ زمان ، فيوما حسب ظاهرها البدائي على حدّ ترجمة الألفاظ ، ويوما معاني أعمق فأعمق حسبما تتعمّق العقول وتنضج الأفكار. وهذا من حكمته تعالى حيث جعل من هذه الشريعة شريعة الخلود. الأمر الذي لم يجعل القرآن ـ حتّى في مثل هذا المتشابه من الآيات ـ يوما ما في موضع حيرة للامّة لا يعقلون منه شيئا ، نعم ، سوى ما كان منه يحتاج
__________________
(١) آل عمران ٣ : ١٣٨.