مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ ...). (١)
فبدأ يواجههم في الخطاب ، لكنّه في الأثناء يغيّر وجهة الكلام إلى التكلّم عن غائبين ، ليحوّل وجهة السامعين من كونهم مخاطبين إلى كونهم ناظرين مستمعين. وذلك للتمكّن في نفوسهم من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المآل ، فيلمسون قباحة العمل وهم يرونه من كثب ، فيكونوا هم الحاكمين على فعالهم بالتقبيح.
قال الزمخشري : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟
قال : المبالغة ، كأنّه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح. (٢)
وذلك لأنّ القبيح من الغير يبدو أقبح ممّا لو ذكر عن النفس.
وهكذا التنقّل من شأن إلى شأن كان من خاصّيّة الكلام إذا كان خطابا لا كتابا. يتنقّل فيه المتكلّم من حال إلى حال ، وربّما من موضوع إلى موضوع آخر ، ثمّ يعود إلى موضوعه الأوّل حسبما يقتضيه الحال والمقام. والتنقّل ظاهرة قرآنية شاملة ولا سيّما في السور الطوال.
مثلا نراه يتعرّض لمسألة الطلاق والعدد في آيات (البقرة : ٢٢٨ ـ ٢٣٧) وينتقل إلى الترغيب في المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى (الآية : ٢٣٨) وصلاة الخوف (الآية ٢٣٩) ويذكر المتوفّى عنها زوجها (الآية : ٢٤٠) ثمّ يعود إلى ذكر المطلّقات (الآية : ٢٤١) الأمر الذي لم يكن متناسبا لو كان الكلام كتابا ، ويجوز في الخطاب. وهذا أيضا في القرآن كثير.
إذن ، فلا موضع لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نظم القرآن.
قال هاشم العربي ـ بشأن آية الكرسي بعد ما وصفها بفخامة اللفظ والمحتوى
__________________
(١) يونس ١٠ : ٢٢ ـ ٢٣.
(٢) الكشّاف ، ج ٢ ، ص ٣٣٨.