وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). (١)
يبتدئ الكلام بالخطاب مع الرسول ويتحوّل من فوره إلى مواجهة المؤمنين.
ثمّ الضمائر المتتابعة الثلاثة (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) يعود الأوّلان منها إلى النبيّ والثالث إلى الله! وهذا من مداورة الكلام من وجهة إلى وجهة ، ويعدّ من ألطف صنع البديع.
ولا يخفى أنّ مثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفية مراجع الضمائر لدى المخاطبين النابهين. وهو من حسن الوجازة وظريف البيان (في ظاهر إبهام وواقع إحكام) سهلا ممتنعا يكسو الكلام حلاوة ممتعة.
فبدلا من أن يكون الكلام مشوّها مضطرب المفاد ـ حسبما راقه المتعرّب المتكلّف ـ أصبح حلوا سائغا يستلذّه المستمع النبيه.
ومثله في القرآن كثير ويكون من لطيف صنع البديع.
وبديعة الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام ربّ العالمين وقد بحثنا عنها وعن أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى (في المجلّد الخامس من التمهيد). ونبّهنا هناك على أنّه لا بدّ في كلّ التفاتة من فائدة رائعة وراء تطرية الكلام والتفنّن فيه لتزيده رونقا فوق روعته ، وأتينا بأمثلة لذلك.
وهنا ـ في الآية الّتي تمثّل بها المتكلّف من سورة يونس ـ نقول : إنّه يزيد مبالغة في الاستنكار :
قال تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا ...). (٢) يعني : أنّ اولئك الكفرة الجحود إذا كشف الله عنهم ضرّهم ، فبدلا من أن يشكروا تراهم يكفرون نعمة الله ويحاولون تغطيتها بأنواع الملتبسات ...
فيمثّل لذلك ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِ
__________________
(١) الفتح ٤٨ : ٨ و ٩.
(٢) يونس ١٠ : ٢١.