الالتفات وتنوّع الكلام
ممّا اخذ على القرآن : عدم نسجه على منوال واحد ، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوّع الخطاب والانتقال والرجوع والقطع والوصل ... وإلى أمثال ذلك من التنقّل الكلامي. زعموا أنّه قد يشوّش على القارئ فهم المعاني! (١)
لكنّه جهل بأساليب البديع من كلام العرب ، وما ذاك الالتفات وهذا التنقّل في الخطاب إلّا تطرية في الكلام تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر وأنشط.
والشيء الذي أغفلوه أنّهم حسبوا من صياغة القرآن أنّها صياغة كتاب ، في حين أنّها صياغة خطاب.
إنّ لصياغة الكتاب مميّزات تختلف عن مميّزات صياغة الخطاب. فقضيّة الجري على منوال واحد هي خاصّة بصياغة الكتاب. أمّا التنوّع والتنقّل والالتفات فهي من خاصّة صياغة الخطاب ، سواء أكان نظما أم نثرا ، فلا يتقيّد الناطق بالاطّراد في سياق واحد ، بل له الانتقال والتحوّل أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام.
فهذا عزيز مصر ـ ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها ـ يقول : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ). (٢) فيخاطب يوسف أوّلا ، ثمّ يلتفت إلى امرأته يوبّخها.
وكلا الخطابين منساق في نسق واحد ولكن في واجهتين ، وقد نقله القرآن على شاكلته الاولى. والقرآن كلّه من هذا القبيل ، لأنّه كلام الله واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في صياغة كتاب. ومن ثمّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقّل في الكلام. الأمر الذي زاد في طراوته وزان في طلاوته.
يقول تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
__________________
(١) هاشم العربي محلق ترجمة كتاب الإسلام ، ص ٤٢٣.
(٢) يوسف ١٢ : ٢٩.