وقد روي عن ابن عبّاس قال : أتى رسول الله صلىاللهعليهوآله سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف ـ من وجوه يهود المدينة ـ فقالوا : كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا ولا ترى عزيرا ابنا لله وقد أعاد علينا التوراة بعد الاندراس وأحيا شريعتنا بعد الانطماس؟! (١)
ومع ذلك : فإنّ القرآن ينسب إليهم هذا القول تعنّتا وجدلا منهم ، وليس على حقيقته : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ). (٢) حيث نسبوا إلى الله البنات وزعموا أنّ الملائكة إناثا ، قولا بلا هوادة ، وعقيدة من غير مستند.
قال محمّد عبده : وقد جرى اسلوب القرآن على أن ينسب إلى أمّة أو جماعة أقوالا وأفعالا مستندة إليهم في جملتهم ، وهي ممّا صدر عن بعضهم. والمراد من هذا الأسلوب تقرير أنّ الامّة تعدّ متكافلة في شئونها العامّة ، وأنّ ما يفعله بعض الفرق أو الجماعات أو الزعماء يكون له تأثير في جملتها ، وأنّ المنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكر عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلّهم. قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). (٣) وهذا من سنن الاجتماع البشري أنّ المصائب والرزايا التي تحلّ بالامم بفشوّ المفاسد والرذائل فيها لا تختصّ الذين تلبّسوا بتلك المفاسد وحدهم ، كما وأنّ الأوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف في الشهوات تكون عامّة أيضا. (٤)
* * *
قال الراوندي : وسألوا عن قوله تعالى : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ). (٥) قالوا : كيف جمع الله بينه وبين قوله : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ)؟ (٦) وهذا خلاف الأوّل ، لأنّه قال أوّلا : «نبذناه» مطلقا ، ثمّ قال : «لو لا أن تداركه لنبذ بالعراء» فجعله شرطا!
__________________
(١) جاء ذلك في حديثين عن ابن عبّاس ، نقلهما الطبري في التفسير ، ج ١٠ ، ص ٧٨.
(٢) التوبة ٩ : ٣٠.
(٣) الأنفال ٨ : ٢٥.
(٤) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٣٢٦ ـ ٣٢٧.
(٥) الصافّات ٣٧ : ١٤٥.
(٦) القلم ٦٨ : ٤٩.