والنفث في العقد فإنّما هم أصحاب النمائم وإيحاء الوساوس للتفرقة بين الزوجين أو المتحابّين ، ولا يتأتّى منه غير الإفساد في الأرض ، فيتعمّلون ما يضرّهم من غير أن ينفعهم شيئا حسبما وصفهم القرآن الكريم.
نعم هنا شيء لا ننكره نبّهنا عليه ، وهو : أنّ للنفوس البشرية قدرة خارقة يمكن تنميتها بالارتياض إمّا في وجهة رحمانية رفيعة أو في وجهة أرضية هابطة. والاولى رياضة النفس يقوم بها الأنبياء والأولياء والصلحاء فيفوزون بمقامات عالية ، وربّما تتسخّر لهم الكائنات. وأمّا الوجهة الاخرى الهابطة فيقوم بها أصحاب الارتياض بترك المشتهيات ولذائذ الحياة في أشقّ الأحوال وأصعب الأعمال التي لم يأت بها الله من سلطان ، ولكنّهم قهروا أنفسهم على نبذ الشهوات واللذائذ وانخلعوا عن زخارف الحياة. وهو عمل له قيمته ووزنه في ترك الدنيا الدنية ، وحيث لم يكن لهم نصيب في الحياة الاخرى الخالدة فقد يمنحه تعالى منحة تقتنع أنفسهم بها تجاه ما تحمّلوا من مشاقّ الحياة. الأمر الذي قد نشاهده من خوارق على يد مرتاض الهند وغيرها من بلاد ، ولكن في إطار محدود وعلى شريطة أن لا يزاولوها عن جهة الفساد في الأرض ، وإلّا فيؤخذ منهم فور إرادة السوء. نظير ما قيل بشأن «بلعام بن باعورا». قيل : كان رجلا صالحا من قوم موسى ، وقد منحه الله استجابة دعائه ، فحاول تقرّبا إلى بعض الأمراء أن يدعو على قوم مؤمنين ، فسلبه الله المنحة وظلّ خاسرا دينه ودنياه. قيل : والآية التالية ناظرة إلى هذا الحادث : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ). (١)
أمّا العامل بالشرط ولم يتجاوز حدوده المضروبة فستدوم له منحته ما دام باقيا على عهده ، أو يسلم فتدّخر له مثوبته في الدار العقبى مثوبة باقية.
روي أنّ شيخا من الأكابر رأى في طريقه لمّة مجتمعة حول رجل فسأل عنه ، قيل له : إنّه يعلم الغيب. فأتاه وسأله عن شيء أخفاه في كفّه فأخبره به. فسأله الشيخ عن أيّ
__________________
(١) راجع : جامع البيان ، ج ٩ ، ص ٨٢ ـ ٨٤ والآية ١٧٥ و ١٧٦ من سورة الأعراف.