ورجّح هذا المعنى على المعنى الأوّل باحتياج ذلك إلى تأويل النفي العامّ هنا بتخصيصه بمن يكون منهم حيّا عند نزول عيسى. قال : والمتبادر من الآية هو المعنى الذي أختاره ، وهذا التخصيص لا دليل عليه ، وهو مبنيّ على شيء لا نصّ عليه في القرآن حتّى يكون قرينة له. قال : والأخبار التي وردت فيه لم ترد مفسّرة للآية. أمّا المعنى المختار الذي هو الظاهر المتبادر من النظم البليغ فيؤيّده ما ورد من اطّلاع الناس قبل موتهم على منازلهم في الآخرة. قال : وممّا يؤيّد هذه الحقيقة النصّ في سورة يونس على تصريح فرعون بالإيمان حين أدركه الغرق. (١)
غير أنّ سياق الآية يرجّح القول الأوّل ، حيث وقع هذا التعبير عقيب ردّ مزعومة اليهود : أنّهم صلبوه وقتلوه ، بل شبّه لهم الأمر وما قتلوه يقينا. فمعناه : أنّه لم يقتل ولم يمت ، وأنّه حيّ يرزق ، وما من أحد من أبناء اليهود والنصارى ليؤمننّ به إيمانا بنبوّته الصادقة قبل أن يموت المسيح ، فالكلام هنا كلام عن موت المسيح ، وأنّه مات بالصلب وقتل أم لا ، فالآية تنكر ذلك ، وتنصّ على أنّه لم يمت ، فكان قوله تعالى (قَبْلَ مَوْتِهِ) إشارة الى موت المسيح عليهالسلام.
لسيّدنا العلّامة الطباطبائي قدسسره هنا نظرة دقيقة في دلالة سياق الآية على عود الضمير في (قَبْلَ مَوْتِهِ) إلى المسيح عليهالسلام وذلك حيث قوله تعالى ـ عقيب ذلك ـ : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً). فإنّه يدلّ على أنّه عليهالسلام يشهد يوم القيامة بشأن من آمن به في حياته قبل موته. أمّا فترة التوفّي ورفعه إلى السماء فكان الشاهد عليهم هو الله سبحانه ، كما جاءت في سورة المائدة : ١١٧. (٢)
وأمّا مسألة تخصيص العموم فليس من التخصيص حقيقة ، وإنّما هو من باب التسامح والتوسعة في التعبير ، فخوطب الآباء بما يفعله الأبناء ، كما عوتب الأبناء بما فعله الآباء في كثير من مواضع القرآن.
__________________
(١) تفسير المنار ، ج ٦ ، ص ٢١ ـ ٢٢.
(٢) راجع : تفسير الميزان ، ج ٥ ، ص ١٤٢.