اعلم أن الأشياء كلها حيها وجمادها حاملة للروح الإلهي ؛ لكن لمّا كان الحياة ظاهرة حسية في الأحياء ؛ عبّر عنها بالنفخ في القرآن ، كما قال في الإنسان : «ونفخت فيه من روحي» (١) ؛ فإن الأثر أظهر في النفخ من غيره ، ولمّا كانت باطنة معنوية في الجمادات ؛ أشير إليها بالتسبيح في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤].
فإن المسبّح لا بد وأن يكون حيّا ؛ فالمكاشفون أدركوا الحياة في الجمادات أيضا دون غيرهم ؛ ولذا لم يكونوا يصوّرون صورة لا صورة ذي الروح ، ولا صورة غيره إلا بإذن الله تعالى ؛ كعيسى عليهالسلام لّما صوّر الخفاش من الطين بإذن الله تعالى نفخ فيه الروح ؛ فصار يطير كسائر الطيور.
فإن المصوّر ـ بالكسر ـ حينئذ إنما هو الحق تعالى في صورة عيسى ، وكذا النافخ للروح ؛ كالرامي في قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] ، وذلك أن الهويّة إنما هي هوية الحق تعالى ، وليس للعبد هوية غير التشخّص ، وليس التأثير من جانب التشخّص ؛ بل من طرف الهويّة.
فالمصوّر إذا صوّر شيئا من طرف تشخّصه من غير أن يأذن الله له من طرف هويته ؛ عجز عن نفخ الروح فيه ، وصار عرضة للعذاب ؛ لأنه شبّه نفسه بالخالق ، والذي صوّره بخلق الله تعالى.
وقد قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] يعني أن العبد لا يقدر على الخلق مادام مخلوقا ، فإذا تجلّى فيه سرّ الخالقية على ما أشار إليه قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].
وأذن الله له في الخلق والنفخ ، كان الأمر كما شاء الله تعالى بهويته المضافة إلى العبد.
وقد نفخ أبو يزيد البسطامي قدسسره في نملة ميتة ؛ فحييت بإذن الله تعالى لا بنفخه المجرّد ؛ فإن نفخه المجرّد ريح نفسانية لا تؤثّر إلا بسريان الروح الإلهي فيها ،
__________________
(١) رواه البيهقي في الشعب (١ / ١٧٢) ، والديلمي في الفردوس (٣ / ٤٢١).