والشهرة والعيش والعشرة ؛ فإن بقيت على هذه الحالة فسترى ما ترى.
أقول : لما أراد الشيخ أن يستخلفني في بلدة الإسكوب من الديار الرومية ، وهي بلدة كبيرة كما سبق ، دعاني ودعا لي ووصى لي بوصايا غريبة حتى تلا قوله تعالى :
(وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ٣] فقال : أنا أوصيك بالحق والصبر كما أوصى بها السلف ، ولا أقول لك : اذهب إلى الإسكوب واطلب المعاش ، واتخذ الضيعة والحديقة والرحى ، وابني خانقاها ، وأكثر الأتباع ، وكن إماما أو خطيبا أو نحوهما ؛ فإنه ليس بطريق الأصحاب ـ رضي الله عنهم ـ بل أقول لك : كن على الحق واصبر كما صبر واظفر كما ظفروا ؛ فإن انسدت طرق المعاش فاخدم للناس بالأجرة قدر ما يندفع به الضرر ، وكن مستغنيا عما في أيدي الناس ، وعليك بالإبكار في كل مادة ، فإن وسع الله عليك الدنيا فالبس من الحلال ما شئت بعد أن كان لباس الطريقة التجريد ، واجعل زينتك لباس التقوى ، وإني أرجو منك خدمة في باب الدين عظيمة.
ولما قدمت بلدة الإسكوب ساق الله إليّ أرزاقا كثيرة من حيث لا احتسب ، وكنت وقتئذ ابن ثلاث وعشرين فأخذت ألبس لباس الرخصة على ما رخص لي حضرة الشيخ بمقتضى الحداثة والشبيبة ، وصبوة الشبيبة ، واستمر ذلك عشر سنين إلى أن زرت حضرة شيخي في بلدة أدرنه ، وعليّ ثياب جدد وألبسة فاخرة ، فأراني يوما شرحه على مفتاح الغيب للقونوي ، وقال : طالع هذا إلى آخره ؛ فانكشف لي أثناء المطالعة بعض المعاني الغيبية ، وأخذني مرض مجهول ، فكنت لا أقدر على الحركة أياما ، وأراني الله وقتئذ رؤيا غريبة متعلقة بسر الخلافة ، فكتبتها كتابة غريبة على ورقة ، وعرضتها على حضرة من بيده بعد الخلفاء إذ كنت في بيت آخر بسبب المرض ، فاستحسنها غاية الاستحسان ، وتعجب من حسن الاستعداد ، ومدحني عند الحاضرين لطفا وكرما ، وقال : ما أشغلته بها عن الله إلا أنه له حب الزينة الآن ، فبلغني ذلك ؛ فقلت : قد كان أجاز لي قبل عشر سنين من لباس الرخصة ، فأخذت بقوله ، فإن هو أمر بالترك ولم يرض بالزينة ، فأنا عامل بإشارته قائل بوصيته ، فنويت إن عافاني الله من مرضي إذ أستبدل بما علي الذي هو خير منه ، فلما شفاني الله وعدت إلى مهاجري ومراعي قصبة «استرومجة» خلعت ما علي كله ، واخترت العباء ثم لما هاجرت إلى مدينة «بروسة» ووقعت الزيارة القبرصية كما سبق.