وعلماء الحقيقة لا احتياج لهم إليه فعلمهم تذكري ، ثم مثّل مثالا بأن الطالب للماء ، فإما أن يصل إلى الماء أو لا ، فإن وصل فإما أن يكون ذلك الماء مالحا أو عذبا ، فعلى تقدير كونه عذبا فليس كالمطر بلا أسباب ؛ فإنه طيب خالص فالأنبياء والأولياء ملهمون من عند الله تعالى ولا خطأ في الوحي والإلهام ، ولذا نقول : إن علم التصوف هو العلم الصواب الحق كله ثم وصّى بخلوص المحل وألا يكون العبد أجيرا بل عبدا محضا كما قال تعالى : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٠٩] فالعبد الحق لا يرجو الأجر من عمله ولا يترقبه ، بل من ربه ، والأجير يرجوه من عمله ولو علم الأجير أنه لا يعطي لترك العمل ولو علم العبد ذلك لا يترك فهو من الخدمة والعبودية سواء أعطي أو منع.
قال : ومن السالك من يأخذه الله في أوائل عمره ، وبعضهم يجذبه في أواسطه ، قلت لحضرة الشيخ : ذهب العلماء إلى صدور بعض السهو عن النبي عليهالسلام كما نقل تلك الغرانيق الأولى ، وأن شفاعتهن لترتجي ونحو ذلك ، فقال : يفعل الله بهم ما يفعل : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] ، ولم يقع سهو منه عليهالسلام في الحقيقة ، وكونه سهوا بالنظر إلى أرباب النظر لا يستدعي كونه سهوا بالنظر إلى أصحاب الأعيان.
جاء حضرة الشيخ إلى حجرتي في داره العالية ، وكنت مفطرا بعذر الضيافة فجاء بعض المسافرين ، ووضع كوز الماء في جنبي ، فثقل ذلك علي ، وأحسّ الشيخ منه كوني مفطرا ، ثم لما حضر الطعام بعد المغرب وجلست جنب حضرة الشيخ على الوجه المعتاد ، قال في أثناء الطعام مخاطبا لهذا الفقير : كل من الطعام على نية الصوم ، والصلاة ، وإحياء الليلة فعرفت أن فيه تأديبا لي وتنبيها لطيفا.
قال المولى الجامي : [...](١).
قال الشيخ : الآخرة قلب الدنيا ، فالبصيرة الباطنة ظاهرة ، وسألت عن قولهم في قوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] أي : ببشريتك ووجودك ؛ فقال : إن البشرية تنافي الرؤية ، وموسى عليهالسلام سأل الرؤية بالنظر إلى ظاهر البشرية والوجود وهي لا يمكن أبدا بل لو تعلقت الرؤية بذات الله تعالى لتعلقت حالة الفناء في الله ، واضمحلال الوجود والبشرية.
__________________
(١) عبارة تركية.