الزيارة الثالثة
وقت هذه الزيارة في أوائل شوال من سنة ثمان وتسعين وألف ، ووجدت حضرة الشيخ في البيت الفوقاني من مسكنه الجناني ، فقال ما قال من المعارف ، والنصائح الجليلة بعد سؤال الخاطر ، وأفاد أن السلطان محمد رغب له وهو رغب عنه ، وإن التعزز والتمدح بالملوك وصحبتهم لا يغني شيء ؛ فإن العزة لله ولرسوله ، ولن تمسك بما أمر به لا للمعرضين عن الحق والقاصرين نظرهم إلى ما سواه أقول كان أكثر علماء القسطنطينية المنتسبين إلى السلطان مفتخرين به غافلين عن الله حتى ألقوا على التزين بالزّي المتلونة في مراكبهم وملابسهم ومساكنهم ، ورأيت منهم من يقيم في داره ليلا ونهارا ؛ ليجدوه عند الطلب من قبل السلطان ولوزرائه أحد يقول مفتخرا : هذا البساط اللطيف مثلا أعطانيه السلطان أو الوزير ، والحمد لله على تجرد حضرة الشيخ ؛ فإنه لم يقبل من أحد شيء ولو حصيرا فإنه بلى حصير البيت الخارج فأراد بعض الزوار أن يجدده فلم يقبل فبقي إلى أن مات ـ روح الله روحه ـ وإنّ السلطان محمد أراد أن يبني له خانقاها فلم يقبل ، فقال : يكفيني ما أنا فيه من المسكن ، وإن بعض أمراء البحر كلفه مرة بأن يدخله في سفينته الصغيرة المخصوصة به فلم يدخل لكونها مزخرفة منقشة بماء الذهب ، وأنواع الأصباغ ، وقال : يدخل فيها من كان حظه من الاسم الظاهر أوفر كالأمراء والأعيان ، ولم أره قد ركب مركبا وحوله جمع من الصوفية احترز عن الاحتشام واحتقار الدنيا ، ولا قدر لها ولأهلها عند الله تعالى.
قال حضرة الشيخ : اكتب ما لاح ببالك ، ولكن احترز شهرة الكلام والكتاب ؛ فإن الخاطر بالبال يقتضي الظهور في وقت من الأوقات كالمطر سواء وقع في بلدة طيبة أو لا فلك إظهاره فقط.
قال حضرة الشيخ : إنّ الكدر لا يرتفع عن الدنيا ، وإنما يرتفع الكدر من قلوب أهل الحضور والصفاء. مثلا : إن النار لا يرتفع إحراقها ، وكذا الماء وإغراقه كما في حق إبراهيم وموسى ـ عليهماالسلام ـ ثم تلا قوله تعالى : (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥] المراد بآدم وحواء ـ بطريق الإشارة ـ هو آدم : الروح ، وحواء : الطبيعة ، وقد نهاهما الله عن التقرب من شجرة تدبير النفس في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [الأعراف : ١٩] فإنه ظلم ، فظلمه كما قال تعالى :