__________________
ـ فاللباس زينة الإنسان مخرج من الزينة إلى ما لا بد منه ، وهو الإزار والرداء يستتر بهما ، فإن كان حرّ أو برد ردّ في الاستتار من الحرّ والبرد ، وأمر بأن يجتنب إلفه ، والإلف : كل أنثى من حرّة أو أمة ؛ لأن النساء سكن الرجال ، وإلفهم هكذا خلقن ، فأمر بأن يفارق سكنه وإلفه في المباشرة ؛ لينفرد إلى الله ـ تعالى ـ فيوحّد من خلقه ، وتفرّد بمننه ، وأن يخرج من زينة اللباس ؛ ليكون بين يديه كهيئة العبد الأسير الذي لا يدري ما يعمل به ، يريد أن يتقدّم إلى مولاه ليتخذه عبدا.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا».
والاتخاذ هو الافتعال مأخوذ من الأخذ أي : يأخذه ، فإذا أخذه أقبل عليه بالعطف وأسباب السعادة ، ولبّى من الميقات إجابة لدعوته ، ولا يؤدي روحانيا إلا بحق ؛ لأنه في تلبية مولاه قد دعاه ، فأجابه حتى تنتهي الدعوة منتهاها ، فسميت هذه الحال منه إحراما ؛ لأنه أحرم عن كل ظلم وأذى بغير حق وعن الزينة والأليف ، فأمر أن يأتي مكانا خارجا من الحرم تجاه البيت فيقف به متنصلا معتذرا يسلّم بدنه إليه طاعة وعبودة معترفا إليه بذلك في ذلك المكان ، فسميت عرفات ، فهو يقف موقف الاعتذار مستأذنا له في إتيان معلمه واللوذان به ، حتى إذا غربت الشمس وجب الإذن فأفاض والإفاضة سرعة القلب وإنصابه كفيض الماء قاصدا لمعلمه ، فحسبته مظالم العباد ؛ لأنه اعتذر إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ في هذا المقام فقبل عذره وغفر له ، وبقيت تبعات العباد ، فمضى حتى بلغ المشعر الحرام وهو : المزدلفة ، وسميت مزدلفة ؛ لأنه ازدلف إلى ربه زلفة.
والزلفة : القطعة ، أي : تقرب إليه قطعة من المسافة التي كانت بينه وبين معلمه ، ومعني المشعر : شعور القلب بربه في هذا المكان الذي وقف به ثانيا إلى طلوع الفجر ، فاعتذر وتضرّع ورفع إليه فقره وقلة حيلته في شأن التبعات ، فغرها له على أن يرضى عنه أهل التبعات ، فتلك مغفرة أعم من الأولى ، فمضي على إذنه بالأمس ، وإنما حبسه تبعات العباد هاهنا حتى احتاج إلى وقفه ثانية بمعلمه يوم النحر ، فلمّا تخلص من الذنوب ومن تبعات الناس تخلص من الأدناس ، وأسرع في إتيان معلمه ، فلمّا أتى المضيق وجد العدو ، وقد سدّ عليه الطريق حسدا وغيرة ، فأمر أن يرميه ليخسأ ، ففي كل حصاة يرمي ويكبر يخسأ أرضا أرضا حتى يبلغ به سبع تكبيرات وسبع حصيات الأرض السابعة ، لم يبق في الطريق إلى معلمه مانع ، وإلى هذا الموضع كان ممنوعا من معلمه مرة بالذنوب ، ومرة بالتبعات ، ومرة بالعدو ، فإلى هذا الموضع أمر بالتلبية ، فلمّا رمى قطع التلبية ؛ لأنه لم يبق مانع.