__________________
ـ وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه : وإنما حرموا الوصول ـ يعني إلى الحقيقة ـ بتضييعهم الأصول ـ يعني الطريقة ـ ، وكذا صاحب الطريقة إذا لم يؤت الشريعة حقها فسد حاله ، وصارت طريقته هوسا ووسوسة.
العلم الثاني منها : علم الحقيقة الباطنة الذي هو علم التوحيد الخاص وأسرار الشريعة وحكمها ، وما ينشأ عن العمل بها من الكشوفات والأذواق والمعارف والأسرار ونحو ذلك ، وهو علم الباطن الموهوب الذي هو علم القدرة والربوبية ، ويسمى أيضا بعلم الأذواق ، وهو علم وهبي ذوقي لا ينال بتعلم ، وإنما يهبه الله لمن يشاء من خلقه ، ولا يؤديه من وصل إليه بالعبارة ، وإنما يرمز له بالإشارة ، وهو تصوف أهل الباطن ، ومثال العلم الظاهر كجسم فيه روح كامن ، فالجسد لا يقوم بغير روح ، والروح لا تظهر من غير جسد ، وإذا خلا الجسد عن الروح كان ميتا ولا عبرة به ، ولذلك كانت الشريعة بدون الحقيقة عاطلة ، وإذا خلت الروح عن الجسد بطنت ولم يظهر لها ، ولذا كانت الحقيقة بدون شريعة باطلة.
وقد نقل الشيخ عبد الرءوف المناوي في «إرغام أولياء الشيطان بذكر مناقب أولياء الرحمن» في الباب الخامس في أصول علم التصوف عن إمامنا مالك رضي الله عنه قال : «من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق» أي : لأن حقيقته تصير عارية بدون كسوة فيقتل عليها ، فإن كان محقا وغلبه السكر كان شهيدا ، وإن كان مدعيا مبطلا كان بعيدا ، وعن الحضرة طريدا.
«ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق» أي : لأن أعماله أشباح بلا أرواح ، «ومن جمع بينهما فقد تحقق».
والعالم بهذا العلم الثاني هو المسمى عارفا ، ومن يصل إليه وكان من أهل العلم الأول سمي عالما ، والفرق بينهما أن العالم دون ما يقول ، والعارف فوق ما يقول ، والعالم يصف الطريق بالنعت ، والعارف يصفها بالعين ، لأنه سار معها وعرفها ، والعالم محجوب والعارف محبوب ، والعالم يدلّك على العمل ، والعارف يخرجك عن شهود العمل ، والعالم يعرفك بأحكام الله ، والعارف يعرفك بذات الله ، إلى غير ذلك ، ومن لم يسعده الله تعالى بملاقاة عارف لا يشك أنه في مهاد نفسه تالف.
ولذا قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : وكم يتغلغل في علمنا هذا ـ يعني علم القلوب ـ وما يعرف به علام الغيوب بات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر.
قال الشيخ شهاب الدين أحمد بن علان الصديقي البكري المكي الشافعي في «شرح حكم أبي مدين» : ولقد صدق فيما قال ، فأي شخص يا أخي يصوم ولا يعجب بصومه؟ وأي شخص يصلي ولا يعجب بصلاته؟ وهكذا سائر الطاعات إلا ارتحل عليه عناية مولاه بمعرفة آداب الخدمة من مجالسة