وأمّا عالم الملكوت فلا يدخله إلا القلب السليم من تعلّقات الكونين ، والروح المحلّى بزينة المعرفة ، المكحّل بنور الشهود.
ولذا أعيى الفلاسفة وأهل النجوم إدراك حقائق عالم الملكوت ، بل صوره النورانية أيضا ؛ لأنه ليس لهم إلا التصرّف الحسّي ؛ كأهل الرصد ، والتصرّف العقلي الفكري الخيالي القياسي ، كما لعامة الفلاسفة ، وهم في ذلك ملحقون بأهل الكشف الخيالي ، فإن أهل هذا الكشف ليس سيرهم إلا في ظاهر الكون وخارجه لا في باطنه وداخله ، وإن كانوا يدّعون إنهم دخلوا عالم العرش والأرواح ؛ خوطبوا بالخطابات الإلهية ، وورد عليهم الواردات الغيبية ، فإن ذلك كشف من ظاهر العالم ، ومعارف ظنية ؛ بعضها مطابق للواقع الذي عليه أهل الكشف الصحيح القلبي ، وبعضها مخالف له.
وكم في بعض كتب التصوّف من السقطات ؛ كواردات الشيخ بدر الدين المصلوب ، وكتاب إخوان الصفا وغيرهما من كتب أهل الضعف والتلوين ، وما يعقل ما فيها إلا العالمون ، فإن أردت الكشف الصحيح ؛ فعليك بكتب الشيخين محيي الدين ، وابنه الشيخ صدر الدين قدسسرهما ، ويلي تلك الكتب الجليلة تأويلات الشيخ نجم الدين الكبرى ، وكتب الشيخ الحكيم الترمذي ، وكتب شيخي وسندي الشيخ السيد عثمان الفضلي الإلهي ، كشرح تفسير الفاتحة لصدر الدين ، وكتاب «اللائحات البرقيات» وغير ذلك.
فعليك بنحو ذلك الكتب السماوية ، وإياك والكتب الأرضية ، فإن كنت دخلت في عالم الكتب السماوية : أي من طريق الذوق لا من طرق التصرّف ، والتّتبع العقلي ؛ فقد عرفت الحق ، وميّزته من الباطل ، ودريت الغثّ والسمين ، وتخلّصت عن الخيال والظن والتخمين ، ونجوت من أوهام البرانيين العشريين (١).
__________________
(١) للقوم رضي الله عنهم في الكلام على تقاسيم وأنواع العلوم ، وبيان الدليل من الكتاب والسنة المطهرة على العلم اللدني ـ أو السمائي كما سماه المصنف قدسسره ـ أقوال جمّة ، أحسن سيدي جعفر الكتاني قدسسره في جمعها في بحث من مقدمة كتابه العظيم (جلاء القلوب من الأصداء