ثم إن الله تعالى نصّ على المعيّة الذاتية في قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] ، وقد حملها العارفون على معنى معيّة الشيء إلى نفسه ، ونصّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أن الله في جهة قبلة المصلّي ، وبينهما تدافع.
والتوفيق هو أن كون الله تعالى مع عبده ؛ إشارة إلى التجلّي الوجودي ، والنفس الرحماني ، فهو مظهر نوره تعالى ، وعامل سرّه ، وكونه في قبلته ؛ إشارة إلى القلبي من باطن الغيب إلى ظاهره في العلماء التفضّلي ، فإنه تعالى متين في تلك المرتبة بين الفاعل ، والقابل ، والمؤثّر ، والمتأخّر ، والمفيض ، والمستفيض ، فكانت الحقيقة الواحدة حقيقة فاعلية من حيث باطنها وقدسها ، وحقيقة قابلية من حيث ظاهرها وتعيّنها.
وهذه نسبة معتبرة بين الحقائق الإلهية ، والحقائق الكونية ؛ لتمييز المراتب على ما يستدعيه الأسماء المختلفة الحقائق ، فكان الله تعالى ساجدا ومسجودا في الحقيقة من حيث أحدية الوجود ، والفيض الأقدس ، ومسجودا فقط من حيث اعتبار الوحدة ، والفيض المقدّس.
فالعبد ساجد في هذه المرتبة الذاتية ، فلا تحصل : أي المناجاة ، ولا تتحقق إلا بينهما ، ومن مقتضياتها الفهوانية والمشافهة على ما يستدعيه الخطابات القرآنية لا سيما ما وقع في الفاتحة ؛ ولذا اقتضى الحال المحاذاة والمقابلة ؛ ليصحّ الخطاب والمناجاة ، وهي بكون العبد متوجها إلى القبلة.
وكون الرب متوجها إلى العبد ؛ فيكون الحق هو القبلة في الحقيقة ، كما أنه هو المجيب لمكالم غيره منه تعالى حتى لا يكون توجه العبد إلى ما سواه تعالى لا صورة ولا معنى ، أمّا المعنى فلا بحث عنه ؛ لكونه مما لا يدرك إلا بالذوق بعد الدخول في دائرة البساطة ، وأمّا الصورة ؛ فلأن الله تعالى في حالة المناجاة والمكالمة يتجلّى في صورة مثالية يحصل فيها الكلام والخطاب ، وأمّا باعتبار تجرّد ذاته ، وغناه عن العالمين ؛ فلا صورة له أصلا ، وكذا لا يكون في جهة ونحوها على ما أفاده الحقائق ، فاعرف ، فإنه من لباب المعرفة.