الاحتجاب ، وبالعلم يضمحل الجهل ، ولا يزال في كل نفس من أنفاسه يسافر إلى حال من الأحوال ، وإلى مقام من المقامات إلى أن ينتهي إلى آخرها بحسب استعداده.
فإن المنتهى وإن كان واحدا كما قال تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] ؛ لكن نقاط الدائرة مختلفة بالنسبة إلى المركز ، فالتفاوت إنما هو في الكيفيات.
ألا ترى إلى الأبصار فإنها لا تدرك إلا بقدر قوتها وضعفها ، وإن كان المرء قريبا.
وأمّا الغنيمة في هذا السفر : فالاستكثار من العلوم الإلهية ، والمعارف الربّانية ، والحكم اللطيفة ، والحقائق الرقيقة ، والأذواق الشهية ، ومعانقات العذارى المقصورة في خيام ومواصلات حور عين ؛ كأمثال اللؤلؤ المكنون في أصداف البحر.
وأية غنيمة فوق هذه الغنيمة؟ فهذه غنائم الفقراء السالكين ، فإنهم قلّلوا الأغذية الجسمانية ، واختاروا السهر ، والصمت ، والخلوة حتى أغناهم الله من فضله الكثير ، ومنه الوفيرة ، وأراهم جماله حين قام الخلق ، وكالمهم ، وكان معهم حيث كانوا ، نسأل الله سبحانه أن يسلك بنا مسالك أولئك الواصلين ، ويرزقنا من نعيمهم ، ومزيدهم في كل حين.
٦٣ ـ في الحديث : «من أهان سلطان الله ؛ أهانه الله ، ومن أكرم سلطان الله ؛ أكرمه الله» (١) :
الإهانة ضد الإكرام ، كما يعرف من المقابلة ، وسلطان الله أعم من أن يكون القرآن ، أو القائم بالقرآن بظاهره ومعناه ، والإمام الظاهر بصورة السلطنة.
أمّا الأول ؛ فلأنه حجة الله وبرهانه على المنكرين ، فمن أهانه بترك العمل به ؛ أهانه الله بالعذاب المهين ، وكان عمر رضي الله عنه يقبّل المصحف كل صباح ، ويقول : هذا كلام ربي ؛ يعني : يعظّم ظاهره بالتقبيل ، وباطنه بالعمل بموجبه.
ولا شك أن تعظيم الكلام تعظيم للمتكلّم ، وكذا الإهانة به ، واستحقاره
__________________
(١) رواه البيهقي في الكبرى (٨ / ١٣٦) ، وأحمد (٥ / ٤٨).